المصدر أونلاين - هلال الجمرة
عاد إلى بلده بعد غيبة طويلة استمرت نحو 24 عاماً، أمضاها في العمل
بالمملكة العربية السعودية. لأول مرة يتلهف رجل الأعمال محمد عبده دبوان
لرؤية وطنه. لا سيما بعد عمر من المعاناة التي عاشها في ظل حكم ينحاز إلى
الطغاة لأجل كسب ولائهم ضد الشعب. وفي زياراته المتقطعة والنادرة إلى اليمن
- التي تنبع من منطلق حنينه لأمه ولأهله - لم يكن الرجل يطيق البقاء هنا،
إذ تمضي عليه الساعة كقرن. لكن الوضع اليوم أصبح معكوساً تماماً فالشعب
يشهد ميلاد بلد جديد.
قبل أسبوعين وصل محمد دبوان،40 عاماً، ورفيقه الشاب محمد الذاهبي، 29
عاماً، إلى مطار صنعاء في الخامسة عصراً. ومباشرة اتجها صوب اليمن الجديد:
ساحة التغيير بصنعاء. "كنا مستعجلين على استنشاق نسيم الحرية، وفعلاً لأول
مرة أتنفسه في هذه الساحة"، قال دبوان. كانت رياح الحرية تتصاعد بالكلمات
التي دونها الثوار على الشوارع المؤدية للساحة. وقبل دخولهم ساحة التغيير
من شارع الحرية استقبلتهم لوحة ترحيبية كبيرة علقها الشباب مكتوب عليها
"أهلاً بكم في أول كيلومتر كرامة".
"أدهشني النظام منذ الوهلة الأولى"، قال الذاهبي. خضعوا للاجراء الاحترازي
الخاص بالساحة بالتفتيش من قبل اللجنة الأمنية التي كونها الشباب.
"فاجأتني أشياء كثيرة داخل الساحة"، قال دبوان مبتهجاً. ووصلا الساعة
السابعة مساءً إلى إحدى الخيام التي يعتصم فيها بعض أصدقائهما.
لم ترو الأخبار التي يستقونها من وسائل الإعلام ظمأهم. "العيش في الحدث لا
يقارن مع مشاهدة الساحة من خلال الشاشة الصغيرة"، هكذا كان رأي دبوان. لقد
اتخذ الرجل القرار بشكل مفاجئ، عقب مشاهدة المجازر التي ارتكبها النظام ضد
شباب الثورة السلميين في جمعة الكرامة، واتصل بمحمد الذاهبي يطلب منه
مرافقته إلى أرض الأحلام، التي يصنعها شباب الثورة في ساحات الحرية
والتغيير. فاتفقا وحجزا على أول طائرة إلى صنعاء.
حضرا ليشهدا هذا الحدث التاريخي العظيم في حياة اليمنيين: مشاركة الشعب في
إرادته المتمثلة بإسقاط النظام. "ولمؤازرة المعتصمين في ساحة التغيير
وإيصال رسالتنا بأننا يدٌ واحدة"، قالا. وأضاف محمد دبوان (أبو رائد):
"خجلت من مشهد الشاب الذي يتقدم بصدره العاري لمواجهة الرصاص الحي في سبيل
حريتي وحرية اليمنيين كافة داخل البلد وخارجه، وهذا أثر في نفسي بشدة".
يحمل أبو رائد ومحمد الذاهبي عن ساحة التغيير مشاعر لا تنتهي. أمضيا
الإجازة الأسبوعية هنا: 3 أيام في قلب الثورة. "شعور لا يوصف ولا يحس به
إلا من يعيشه"، قال الأول. فيما يرى الثاني أن "هذا هو اليمن الذي كنّا
نحلم به".
على هتافات الشباب ونغم العود والأغاني والأناشيد الوطنية، يحيي الثوار
لياليهم. الزائران أيضاً عاشا 3 ليال خرافية. شاركا الشباب هتافهم "الشعب
يريد إسقاط النظام" وأكلهم، وزارا الجرحى والمصابين، وتنقلا للجلوس والنوم
في عدد من الخيام.
أبو رائد لاحظ ائتلاف وتعايش الناس بجميع مكوناتهم وطبقاتهم الاجتماعية
وخلفياتهم الثقافية. وشارك في حلقات النقاش التي تدار في الخيام والندوات.
لامس قضايا ومشاعر ومعاناة هذا الشعب الذي ثار على الظلم والاستبداد، وتأكد
أن هناك أشياء جميلة كثيرة لا تستطيع وسائل الإعلام إيصالها.
ويقول محمد الذاهبي: جلست مع شباب طامحين وحالمين بدولة مدنية حديثة.
ويعتقد أن كل شاب من شباب الثورة له قصة مختلفة، إذ يروي لنا ما سمعه من
شاب قابله في إحدى الخيام: قال إنه ترك التعليم مبكراً واتجه للعمل بإيجار
زهيد بسبب عدم وجود مصدر دخل لأسرته، وذلك بسبب الرئيس، وأنه ينوي مواصلة
تعليمه بعد الثورة.
"وجدت داخل هذه الساحة أروع ما في الشعب اليمني، وهذا من أجمل الأشياء التي لمسناها"، قال محمد.
جدد أبو رائد الزيارة للساحة في الأسبوع التالي لزيارته الأولى، وأصبح
يفضل أن يقضي فترة إجازته في الساحة التي تبعد عن مقر إقامته في الرياض
آلاف الأميال. ويقول إنه سيعتمد ذلك في تحقيق زيارة أسبوعية للثورة.
محمد دبوان، الذي ينتمي إلى محافظة تعز، ومحمد الذاهبي الذي يتحدر من آنس،
محافظة ذمار، لم يغادرا ساحة التغيير لمدة 3 أيام. وقد حرصا على أن
يستمتعا بكل لحظة لهما هنا، حتى إنهما لم يزورا عائلتيهما في مناطقهما.
وهنآ الشباب على عزيمة النضال التي لم تفتر.
تذمرت أسرتاهما لعدم اصطحابهم لزيارة ساحة التغيير
وعصر الأربعاء قبل الماضي، أخبرا زوجتيهما وأبنائهما بقرارهما الذي
لايحتمل الانتظار: زيارة الثورة. امتعضت الأسرتان من القرار، فجميعهم أبدى
رغبته في السفر لمشاركة أهلهم على درب النضال.
وقف ريان محمد دبوان، 8 سنوات، أمام والده قبل خروجه من البيت. قبّل والده
على رأسه، وسأله بلهجة جادة: يا بابا باتروح تقول مع الناس: إرحل... إرحل.
فردّ عليه نعم. لم يكتف ريان بسؤال واحد فسأل ثانية: هل ستقتلهم؟ سؤال
خطير بالنسبة لطفل شاهد مع أسرته مجزرة جمعة الكرامة 18 مارس التي راح
ضحيتها نحو 56 شاباً دون سلاح. وكان الرد من رحيق الثورة: لا.. إحنا
سلميين.
أما محمد الذاهبي فقد احتجت زوجته عندما علمت بسفره متأخرة. كانت تريد أن
تشاركه السفر إلى ساحات التغيير. لكنه فاجأها بتوقيت السفر. ووعد باصطحابها
في المرة القادمة. وزوجته هي إحدى الثوريات في بلاد المهجر، وهي مدرسة في
إحدى مدارس الرياض.
ربما يشعر بذلك النصر اليمنيون في بلاد المهجر أكثر من غيرهم. فهم يلمسون
ما حققته الثورة لهم أكثر من غيرهم. لقد أعادت لهم اعتبارهم. أعادت
لليمنيين في الخارج كرامتهم وعزتهم التي أفقدهم إياها "الرئيس علي صالح
طيلة فترة حكمه"، قال محمد الذاهبي.
منذ تفجرت الثورة الشبابية انعكست النظرة لليمنيين في كل بقاع العالم من
نظرة استياء وسخرية إلى إعجاب وإجلال. لقد أثبت الشباب في ساحات التغيير أن
اليمن مختلف، وأن ما عكسه نظام صالح خلال 33 عاماً ليس سوى وجهه القبيح
والقميء الذي ألبس اليمن قسراً ليظهرها للعالم بصورة أكثر تخلفاً وحماقة.
لقد مثّل اليمن أسوأ تمثيل. حتى إن العالم بات ينظر إلينا من خلال يد
الرئيس الممدودة، بأننا شعب يقتات على الصدقة، وبأننا متسولون في نظر
أشقائنا في دول الخليج. ومن خطاباته ألصق بنا صفة الغباء، وأصبحنا محل
سخرية من قبل المتشدقين في أنحاء العالم. وأصبحنا بنظرهم "شعب غارق بخطابات
رئيسه". يقول الذاهبي: أصبحنا موضع سخرية وتندر للآخرين بسبب خطابات
الرئيس، مما يضطرنا إلى أن نختفي يومين على الأقل إذا خطب.
إرفع رأسك شامخاً أنت يمني. فبعد خروج الشباب إلى الساحات بطريقة حضارية
وراقية "أشعر بأننا نستعيد المجد الذي كنا نعيشه في عهد الرئيس إبراهيم
الحمدي"، قال دبوان.
عندما هرب الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي وبدأ الشباب
اليمنيون يخرجون إلى الشوارع للمطالبة بإسقاط النظام، كان المغتربون يرون
أن تحقيقه ضرب من الخيال. "يقول محمد دبوان: "نحن نعرف أن الظلم والقهر في
بلدنا أكثر بكثير من تونس ومصر، لكن كنا نقول إن الشعب ميت". وأضاف
الذاهبي: وكان المغتربون العرب في السعودية يضحكون على المظاهرات في اليمن
ويقولون إنها مظاهرات حتى وقت القات.
خروج الشباب في بداية الأمر ونزعتهم القوية إلى الحرية وتحملهم القمع
الشديد من قبل النظام وبلاطجته، غيّر نظرة المغترب اليمني مع مرور الوقت.
الشباب فاجأوا هؤلاء (المغتربين) بخروجهم للاعتصام سلمياً، وقبول القبائل
بمختلف مشاربها التخلي عن أسلحتهم والانضمام إلى الشباب لمؤازرتهم والنضال
معهم سلمياً في ساحات الحرية والتغيير.
أيقن المغتربون اليمنيون بالنصر منذ الوهلة الأولى سيما "عندما بدأ الرئيس
يهتز ويخاف ويرتعب من عشرات الطلاب والشباب الذين خرجوا للمطالبة بإسقاط
النظام". وقد وسعت آفاقهم الثورة المصرية أيضاً.
بعد نزول الشباب وانضمام المشترك لهم، بدأت مخيلة اليمنيين في الخارج تبحث
عن التالي، وتتوقع نهايات تاريخية للرئيس. "كنا نتشكك في أمرين؛ إما أن
ينحو منحى الرؤساء الديكتاتوريين أو أنه سيعتبر من نهاية بن علي ومبارك
ويتنحى قبل أن يسفك الدماء وأن يخرج بطريقة سلمية مشرفة". لكن محمد الذاهبي
كان يرجح الأولى لمعرفته بتمسك الرجل بالكرسي اللاصق وتلهفه على الحكم من
خلال تاريخه الدموي والنزاعات المناطقية والطائفية التي يختلقها". على
العكس كان يفكر محمد دبوان فقد كان يعلق أمله على قيادات حزب المؤتمر
الشعبي العام الحاكم ويقول إنهم قد "يرشدونه أو يجبرونه على عدم الانزلاق
إلى العنف ضد المعتصمين سلمياً الذين يطالبون بإسقاط نظام حكمه".
سينقل أبو رائد والذاهبي لرفاقهما في بلاد الغربة ملامح اليمن الجديد الذي
يتشكل على ساحة التغيير. سيطمئنونهم بأن شباب الثورة صامدون وأن عزيمتهم
لن تفتر. سيخبرونهم عن بسالتكم وشجاعتكم التي لن تثنيها مجنزرات وأسلحة
النظام الفاسد. سيؤكدون لهم أن النظام على وشك السقوط "بل إنه قد سقط فعلاً
بخروج الشباب إلى الساحات ينادون بالحرية". هذا العهد قطعه هذان الرجلان
على نفسيهما ويحملانه على عاتقيهما.
ودورهم النضالي؟
قبل 4 أسابيع، لم ينم محمد الغفاري إلا بعد أن بعث بـ19 رسالة قصيرة لدعم
الثورة في عدد من القنوات الإخبارية. واتصل الى قناة الجزيرة مباشر ليشد من
أزر الثوار في ميادين التغيير والحرية. فهو يؤمن بأن هذا أقل ما يجب أن
يفعله.
وقال لـ"النداء": أشعر بأنني أخذل الثوار خاصة عندما أراهم يقتلون بدم
بارد من قبل النظام. وأضاف: هؤلاء الشباب العظماء الذين يواجهون الرصاص
الحي بصدور عارية يفضحون وحشية ودموية الرئيس ويعجلون من سقوطه.
شعر اليمنيون في المهجر بالفخر وهم يشاهدون إخوانهم في ساحات التغيير،
لكنهم يشعرون بالتقصير والعجز لعدم قدرتهم على المشاركة في النضال، ويؤنبون
ضمائرهم كلما شاهدوا مجزرة أو اعتداء على المعتصمين سلمياً. لذلك فهم
يحاولون أن يكون لهم دور في إنجاح هذا الحدث التاريخي العظيم.
"كلٌ يناضل من موقعه وباستطاعته"، هذا المبدأ الذي التزم به الثوار
اليمنيون في الخارج. فهؤلاء يوزعون أوقاتهم وجهودهم على عدة أعمال تثمر في
صالح الثورة: "هناك من ينظم اعتصامات ووقفات احتجاجية وتضامنية أمام مقرات
السفارات اليمنية في الخارج أو أمام مقرات الأمم المتحدة والدول المؤثرة
مثل أمريكا والدول الأوروبية، وهناك من يشغل وقته بإرسال رسائل sms إلى
القنوات الفضائية التي تعتمد تفاعلات المشاهدين، وهناك من يعلق على
الكتابات التي تنشر على المواقع الإلكترونية والمنتديات والمواقع
الاجتماعية كالفيس بوك وتويتر، وهناك من يتصل بالقنوات للرد والتوضيح على
أكاذيب وادعاءات وتلفيقات أزلام النظام ومؤازرة الثوار".
وقد أنشأ المغتربون صفحة على الموقع الاجتماعي "فيس بوك" أطلقوا عليها
"مغتربون يمنيون من أجل التغيير". ويلاحظ من خلال المشاركات المستمرة
نشاطهم العالي، ومدى حرصهم وإيمانهم بضرورة التغيير