عبدالفتاح حيدرة
ظهر الجمعة الماضي سالت دماء ابن قريتي فواز في ساحة التغيير وسط العاصمة
صنعاء بعد أن اخترقت رصاصة غادرة بطنه ونفذت من الجهة الأخرى، وبعد أقل من
ساعة كان أخوه فهد يتحدث معي بصوت متهدج يخنقه البكاء، كان الصوت يرتعش وهو
يقول لي بغضب وحزن: "أعلناها ثورة، ومستعدين لدفع الثمن. أعلناها سلمية،
وفتحنا صدورنا للرصاص، قلنا للسفاح ارحل، وسيرحل وسيرحل وسيرحل"!
هذا المنطق الثوري الشاهق يصعب على الرئيس فهمه، لا يستطيع رئيس البلاد أن
يهضم مطلب الرحيل، هو غير متعود على مثل هذا النوع من التضحيات الموجهة
ضده، لقد اعتاد دائماً أن يخدمه الجميع، وزراء ومسؤولون يرتبون له مكان
مقيله، ويتغزلون بشاربه، وحين تمتد يده إلى زجاجات المياه المستوردة أمامه
يقفز وزيران أو ثلاثة لفتحها والبسملة عليها، يمسحون له القات، وينافقون
حذاءه وتصميم بدلته وذوقه في اختيار عطره، يحبون على رأسه، ويسلمون له
خدودهم لصفعها حين يتعكر مزاجه، يتعاملون معه وكأنه ملك متوج أشد غطرسة
وعجرفة من الإمام نفسه.
مطلب الرحيل يربكه ويوتره، فيجرب التنازلات فالمبادرات ثم الحوار، ثم يعود
إلى طريقته التقليدية في شراء ولاءات بعض الخطباء ومشائخ الجهل، لكن لم
يعد هناك شيء يجدي مع الشباب، أبداً، ، مطلبهم القصير والمختصر والموجز
يدوي في كل عواصم البلاد بإصرار وعناد، يتهم الإسرائيليين والأمريكيين، ثم
يعتذر لهم وحدهم، يجمع الناس من جديد ويتحدث عن انتقال سلطات وحكم محلي ولا
أحد يلتفت إليه، يغضب ويثور، ويستعيد تربيته العسكرية، فيصرخ: "ما يقولوا
لأبتهم"؟ في تلك اللحظة بالذات يتحول أكبر رأس في البلاد إلى قاتل في القصر
الجمهوري.
أن يكون هناك رجل في القصر الجمهوري متوتراً وغاضباً تتدلى من على كتفه
معسكرات وفرق موت من الحرس الخاص والأمن المركزي، يعني أننا نواجه مشكلة
كبيرة، ومع إعلان الطوارئ والقانون الذي تعده الحكومة سوف تتحول المشكلة
إلى كارثة، والأيام المقبلة لا تنبئ بخير إن ظلت يد هذا الرجل تتحسس الزناد
كلما ارتفعت الهتافات المطالبة برحيله.
ارتفاع السخط الشعبي وتزايد أعداد الشهداء والنبرة الحادة التي تصاغ بها
دعوات المجتمع الدولي للرئيس بالاستجابة لمطالب شعبه، تثقل كاهله وتضعه تحت
ضغط وتوتر عاليين لا تنفع معهما الحبوب المهدئة ولا نصائح الأطباء
النفسيين، كل هذا مع الأجواء المكهربة داخل قبيلة الرئيس نفسه، وتآكل
النظام عبر الاستقالات واهتزاز قناعات كبار القادة العسكريين وتململهم من
الظروف التي أنتجتها القرارات الخاطئة، فوق طاقة الرئيس وقدرته على التحمل،
وفي السياقات الطبيعية، والمنطقية تماماً، نكون أمام سيناريوهين لكيفية رد
فعل الرجل إزاء كل ما يواجهه: السيناريو الأول هو الاستجابة لمطالب الشارع
وتمهيد الأجواء لانتقال سلمي للسلطة بإزاحة أقاربه والتفويض لمجلس رئاسي
مكون من شخصيات وطنية لإدارة فترة انتقالية لفترة قصيرة، وفي هذا السياق
يمكن الحديث عن النقاط الخمس التي حملها العلماء للرئيس من قبل اللقاء
المشترك قبل ثلاثة أسابيع، وجاء الرفض على أنها متناقضة ويشوبها الغموض.
السيناريو الثاني هو الأسوأ، بمعنى أنه يجعل الرئيس يفتح أبواب جهنم على
نفسه وعلى شعبه إذا ما تمادى مع أبنائه وأبناء إخوته في الارتكان إلى حالة
الطوارئ غير الدستورية وقمع الناس وذبحهم، وساعتها سيغرق القصر الرئاسي
نفسه بالدم بمن فيه، وشيء ما من السيناريو الليبي سيكون حاضراً. هو يعرف أن
السقوط بات وشيكاً بعد أن تداعت كل الإمكانيات ومراكز النفوذ التي كان
يتكئ عليها تحت مرفقه، علماء الدين والقبائل مثلاً، ولم تعد هناك وسائل
أخرى، الخيارات أصبحت محدودة جداً، وجميعها تقود إلى الرحيل، واختياره
للسيناريو الثاني يشبه من يشعل الحريق في غرفة نومه ثم يقفز من النافذة.
السيناريو الثاني مرعب، وهو مع مرور الوقت وبمثل هذه الإجراءات القمعية
سيزيد من ما هو حاصل أصلاً: السخط والغضب وزيادة التوتر والضغط فقط، بحيث
ستحول الرجل إلى مجرد آلة عمياء مدمرة.
ملايين اليمنيين قالوا ما عندهم، والشباب المعتصمون مؤمنون بشرعية
مطالبهم، وأحد الشهداء الذين انتقلوا إلى بارئهم يوم الجمعة الماضي كتب على
ورقة ثبتها فوق راسه وهو يصلي الجمعة قبل دقائق من اختراق الرصاص رأسه:
"أنا الشهيد القادم".
الدور الباقي على الرئيس المنفعل والمتوتر، وعليه من اللحظة التفكير في
الطريقة التي تناسبه في كيفية الخروج، الباب أم النافذة، لكن ما يبدو
واضحاً أن الرجل لا يزال يبحث عن طرق بائسة، وهو وسط كل ذلك لا يجد في
الذاكرة ما يستدعيه سوى النموذج المصري القريب، ولذلك هو مساء الأحد الماضي
يعلن إقالة الحكومة وتكليفها بتسيير الأعمال، وفي العادة وكما تعودنا لن
نرى وجوهاً جديدة، حتى ولو كانت جديدة لنج "مش حينفع" وهذه الإجراءات لن
تؤخر رحيل الرجل من كرسي السلطة التي يبدو أنه مستعد لعمل أي شيء للاحتفاظ
به لأطول فترة ممكنة.
كل شيء يتآكل من حوله: الشرعية والنظام والخيارات المتاحة، والذين من حوله
يؤدون بشكل سيء، وسيء للغاية، يزيد من معاناة الرجل وهلعه وانفعاله ويتلفت
حوله باحثاً عن مخرج فلا يجد ما تبصره عين العقل والحكمة، بل ما يبحث عنه
كل "عسكري"، ولذلك هو لا يجد في نهاية المطاف سوى آلة القتل.
الرجل متوتر وغاضب ومسلح في القصر الجمهوري، وأفضل خدمة يمكن أن تقدم له
هي أن يجد من يساعده ويبعده عن السلاح، ويعالجه من سحر الكرسي والسلطة
وبعيداً عن القصر الجمهوري، هو بحاجة إلى من يقنعه أن وقته انتهى ولا داعي
للمزيد من القتل أو التوتر أو الانفعال.
سيتذكر الرئيس اليوم كل الفرص التي كانت في متناول يده لإنقاذ نفسه من هذا
الوضع الكارثي، وسيخطر في رأسه عشرات المواقف الفاصلة التي لو كان حكيماً
فيها لما اضطر اليوم إلى قتل أبناء بلده، وهو في محنته اليوم ربما يتذكر
أنه كان حتى قبل أيام قليلة قادراً على إنقاذ بعض الصفحات البيضاء في
تاريخه الأسود، ستمر برأسه العنيد العديد من الذكريات والأفكار المضطربة،
لكن من سوء حظه أنه لا يهتدي إلى الصواب، ذلك أن الله ربما لا يريد له
النهاية التي يرغب فيها أنصاره له، والمؤكد أن الله سيختار لهذا الرجل
النهاية التي تليق به.
المصدر أونلاين