المصدر أونلاين - خالد عبدالهادي
لا حاجة لأدوات التشبيه والمجاز بعد الآن لإسقاط أسلوب العصابات على
الطريقة التي يحكم بها النظام اليمني. لقد تماهت الاستعارات في الحقائق
تماماً فتناسلت "العصابة" نسخاً كثيرة هينة الشأن، يمكن مشاهدة أفرادها
بسهولة في ميدان التحرير وشوارع صنعاء وتعز وهم يرهبون متظاهرين مسالمين.
لطالما شبه كتاب وسياسيون ساخطون طريقة الحكم المنبثقة من القصر الجمهوري
ودار الرئاسة في صنعاء بعمل العصابات. كان ذلك إسقاطاً سليماً فيما يبدو
لكن لم تكن قرائنه متاحة للشهود على هذا النحو المكثف الذي يلمسه الناس
ويرونه في الشوارع والساحات العامة.
فقد أطلقت السلطات النظامية يد العصابات المزودة بالأسلحة البيضاء
والهراوات والدراجات النارية لتواصل قمع المتظاهرين منذ ليلة السبت الماضي
في العاصمة صنعاء وتعز حيث أصيب عشرات المتظاهرين جراء قذفهم بالحجارة أو
الاعتداء عليهم ضرباً بالهراوات والعصي الكهربائية.
وصعَّد أفراد العصابات في تعز اعتداءاتهم إلى حد إطلاق الرصاص الحي يوم
الاثنين الماضي بعد يوم واحد من محاولتهم خطف ناشطات في العاصمة صنعاء.
لن تستطيع السلطات إخفاء الانتهاكات فيما المنظمات الحقوقية تراقبها
وتوثقها..منظمة هيومن رايتس ووتش انتقدت ترويع المحتجين قائلة إن ذلك يثير
مخاوف بشأن احترام الحكومة لحرية التجمع.
ونقلت وكالة رويترز عن سارة لي ويتسون مديرة شؤون الشرق الأوسط وشمال
إفريقيا في المنظمة قولها إن "السلطات اليمنية من واجبها السماح
بالاحتجاجات السلمية وحمايتها.. وبدلاً من ذلك يبدو أن قوات الأمن
والعصابات المسلحة تعمل سويا".
يتولى أصهار الرئيس ومعاونوه المخلصون في صنعاء الإشراف على هجمات
العصابات المسلحة التي شاعت تسميتها بالبلطجية وهي التسمية المركبة في
العامية المصرية نقلاً عن أصلها التركي الذي يعني استخدام القوة.
طبقاً للجنة الانتخابات السابقة المنحازة بوضوح للرئيس صالح، فقد حاز
الأخير نحو أربعة ملايين صوت انتخابي في انتخابات 2006 الرئاسية التي يعتقد
على نطاق واسع بعدم نزاهتها. وهذا يثير التساؤل عن حاجته إلى تشكيل عصابات
مسلحة لترويع مواطنيه إن كان يملك شعبيه عريضة بتلك الأعداد.
يتشابه المشهد هنا كثيراً مع حال الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك الذي
وجد في المخبرين السريين وأفراد العصابات الإجرامية طوق النجاة الأخيرة
لنظامه بالرغم من إعلان فوزه في الانتخابات الرئاسية عام 2006 بنحو 25
مليون صوت.
وإن كان نظام مبارك قد لجأ إلى العصابات المأجورة بعد أن أعيته الحيل
لتهدئة المحتجين الثائرين غير أن صالح زج بها مبكراً إلى الصراع بغية ترويع
المتظاهرين ووأد انتفاضتهم قبل أن تستقطب الاهتمام الإعلامي والانتباه
العالمي.
لكن ذلك قد لا يغير خاتمة نظام صالح كثيراً عن الخاتمة التي انتهى إليها
نظاما مبارك في مصر وبن علي في تونس، فالأخيران كانا على مستوى أعلى من
التنظيم والقبضة الأمنية الحديدية بيد أنهما في نهاية المطاف ذابا كقطعة
بوضة على مرجل يغلي.
قد لا يفقه الرئيس شيئاً عن حركة التاريخ أو ناموس التغيير اللذين يخرجان
هؤلاء الشبان ليهتفوا بسقوطه على مقربة من قصره الرئاسي قبل كل الآلام
والخيبات التي زرعها في نفوسهم، إلا أن بإمكانه إدراك أنَّ من غير اللائق
لرئيس جمهورية انتداب رجال العصابات ليكونوا سفراءه إلى المواطنين المحتجين
كي يوصلوا إليهم رسالة "العين الحمراء".
يتناقض هذا القرار كلية مع الصورة التي حاول الرئيس رسمها عن نفسه في
خطابات كثيرة بأنه رئيس لكل اليمنيين فضلاً عن أنه يفصح عن سلوك إجرامي غير
معقول أن يقدم عليه زعيم سياسي يقود دولة كما أنه الأمضى فتكاً بالأنظمة
وإن ظنت أنه قد يطيل أعمارها.
كان رجالات "العصابة" يتقنعون من قبل وراء عدد كبير من المؤسسات الحكومية
الصورية والقرارات الموثقة في الجريدة الرسمية أو الإطلالة التلفزيونية
المصاحبة للعلم الوطني والنسر السبئي وما أمكنهم من حشد أدوات تشي بأن دولة
قائمة بالفعل أما الآن فهؤلاء يريقون مياه وجوههم في ميدان التحرير وبوابة
جامعة صنعاء ليتزعموا خطف المتظاهرين الأكثر حماساً ويقيّموا المهام التي
تؤديها العصابات المجيشة.
لا يبدو ميدان التحرير في قلب صنعاء أكثر من ساحة صغيرة تستحوذ عليها
السيارات المركونة وباعة الكتب المدرسية التي لم تستطع الحكومة فك لغز
تهريبها وحرمان طلاب الأرياف منها.
ومع ذلك يقاتل مساعدو صالح الأكثر إفادة من امتيازات حكمه من أجل التشبث
به ويتوسعون في نصب الخيام وتوطين المرتزقة الذين يمضون أوقاتهم في الثرثرة
ولا يتطلعون إلى أبعد من وجبات غنية تملأ بطونهم ومضغ أصناف جيدة من
القات.
وليست المرة الأولى التي يتجلى فيها تشبث النظام بالميادين الشهيرة فقط
حظر على مرشح المعارضة الرئاسي فيصل بن شملان في 2006 تنظيم حفل انتخابي في
ميدان السبعين بصنعاء وهوى بالحفل إلى ملعب كرة قدم في أحد أطراف المدينة
دون أي حجة قانونية.
سيكون كبيراً على مساعدي صالح افتراض أنهم يدركون شيئاً اسمه رمزية المكان
ليتشبثوا بميدان التحرير مثلاً إذ أن كثيراً من الحجج والوقائع تثبت أنهم
يؤلفون واحداً من أسوأ الأنظمة التي أفرغت الأماكن من رمزيتها التاريخية
كما فعلت بمتاحف عدن ومكتباتها بعد الحرب الأهلية في 1994، وتركت آثار
الأربعة آلاف سنة في الجوف ومارب وظفار للصوص ينقبون عنها بطريقتهم الوحشية
ضد التاريخ.
الراجح إذن، أن تمسك معاوني الرئيس المخلصين بميدان التحرير نابع من
نظرتهم إليه بذهنية سمسار أراضٍ، يرى فيه قطعة أرض تحتل موقعاً مثالياً،
يتوسط العاصمة وتحيط به الشوارع من جهاته الأربع كما يرتاده آلاف المارة
يومياً.
فهؤلاء على علاقة متينة بالسطو على أراضي المواطنين الضعفاء والأراضي
العمومية في محافظات الجنوب والحديدة وتعز وإب وما سواها وبينهم أيضاً من
اغتصبوا أراضي الأوقاف وشيدوا فيها أسواقاً وبنايات.
ويزيد المشهد سخرية في ميدان التحرير، حين يرابط الأشخاص المجلوبون إليه
أياماً دون سبب في أول واقعة من نوعها، يعتصم فيها النظام الحاكم ضد
المجهول.
شاهد العالم من قبل أنصار الثورة البرتقالية في أوكرانيا وهم يعتصمون
بالميادين لإسقاط نظام كان يحكم وفي 2008 اعتصم أنصار حزب الله وسط بيروت
وهو معارض حينها كما اعتصم المتظاهرون المصريون مؤخراً وسط القاهرة ضد نظام
مبارك، إنما لم يشهد العالم حزباً حاكماً يعتصم ضد الفراغ.
من شأن نظرة من مكان مرتفع إلى الصورة المتشكلة في ميدان التحرير أن تظهر
كم أن تلك الصورة فكاهية ويبدو فيها مخيم ضخم من الأغطية القاتمة بينما
ساكنوه هامدون إلا من حركات يسيرة وأصوات مرتفعة لحظة جلب الطعام.
وبصورة مقربة أكثر، يبدو مخيم المؤتمر الشعبي الحاكم في الميدان شديد
الشبه بتلك المخيمات التي تقيمها شركات شق الطرقات لإيواء عامليها وحراس
المعدات من ناحية الهدوء الذي يناقض تماماً طبيعة أي اعتصام سياسي. كأن
المعتصمين هناك مجندون ليحرسوا النظام الحاكم من خطر السقوط أو ليمنعوا صدى
الصيحات المنطقة من حناجر الشبان الثائرين وهي تهتف بسقوطه وتطالبه
بالرحيل.
ويكتمل الشبه بتحول قادة في المؤتمر إلى متعهدي عنف بغيضين، همهم الشاغل
كيف يملأون مركبات النقل بأفراد العصابات ويوزعونهم في شوارع صنعاء وتعز
لمهاجمة المتظاهرين.
يقول شهود عيان إن مدير المؤسسة الاقتصادية حافظ معياد أدى هذا الدور
بإتقان يوم الاثنين وهو يتزعم عملية خطف مراسل تلفزيون بي بي سي بصنعاء
ويعتدي عليه برفقة عصابته بقسوة.
وأمام جامعة صنعاء أيضاً، اندس عضو الأمانة العامة بالمؤتمر عارف الزوكا
بين المتظاهرين وباشر في استقصاء المعلومات عنهم وترتيب وضعية كتيبته
لإخماد احتجاجهم مثل جاسوس مسلوب الضمير.
قبلهما، كان أمين العاصمة عبدالرحمن الأكوع قد هُرع إلى ميدان التحرير يوم
السبت الماضي ليحث رفاقه على حشد عدد أكبر من الأشخاص لضمان احتلال
المكان.
هذه اللطخة الداكنة في المجرى السياسي هي أحدث مشهد ينتجه قادة الحزب
الحاكم في الوقت الذي يواصل رئيسه عقد اجتماعاته بزعماء القبائل في عُذر
وخارف وهمدان لغرض غير منفصل عما يجري كما تنبئ تحركاته حين يضيق عليه
الخناق.
في مقابل هذا الانحدار الفظيع والحشد الهائل لإخماد الاحتجاجات الشعبية،
تواصل طلائع الشبان العزلاء التظاهر في صنعاء وتعز باستماتة، بينما لا تملك
سوى ضرب المواعيد وتحديد الأمكنة على الفيس بوك.
بالمنطق السياسي لا يمكن للمعارضة سوى أن تقبل عرض الرئيس الذي أعلنه
أخيراً وأطلق عليه "مبادرة" وقد فعلت ذلك باشتراطاتها ورؤيتها اللتين
أعلنتهما الأحد الماضي لكن يتعين عليها ألا تدير ظهرها للشبان المتظاهرين
وهم يتعرضون لقمع منظم تديره الاستخبارات والشرطة والعصابات المسلحة.
وستقترف المعارضة خطيئة سياسية إن هي قررت الإعراض عن الاحتجاجات التي
ينتظم فيها شبان معظمهم أعضاء في أحزابها، فليس ثمة من ضغوط تحملها على أن
تظهر حسن سيرة أمام غريمها السياسي الذي يعيش أضعف حالاته.
شاع خلال سنوات المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية شعار تبنته حركات
المواجهة، ينصح بانتهاج المقاومة والتفاوض في آن. وهذه المعادلة هي النصيحة
الممكنة للمعارضة حالياً بصرف النظر عن استعارتها من واقع طرفين متفاوضين
يختلفان بالمجمل عن بعض.
ويبدو دعم الاحتجاجات الشعبية أفضل سبيل للمقاومة السياسية التي تعود بمكاسب سياسية ذات صبغة وطنية لا تقتصر على المعارضة.
على الرغم من أن تصريحات قياديين معارضين لوسائل الإعلام بشأن الاحتجاجات
الشعبية العفوية جاءت خلال اليومين الماضيين غير مشجعة وتكتسي بطابع سياسي
مرتبك لكن كان واضحاً أن أصحابها تعوزهم الحنكة السياسية ولباقة العرض وهو
ما يبقي على أمل أن تعضد المعارضة هؤلاء الثائرين الشبان.
حتى الحوار المتوقع بين المعارضة والنظام قد ينتهي إلى إخفاق مماثل للحوار
الذي حاول الرئيس المخلوع حسني مبارك من خلاله إطالة عمر حكمه لأشهر قليلة
ومغادرة المسرح السياسي بخاتمة مخففة من كل ذلك الهوان الذي حمله معه.
أخفق ذلك الحوار لأنه كان يتجه إلى أطراف ليست مصدر الإزعاج الذي خلق
الحوار نفسه. ذهبت الأحزاب التقليدية تحاور لكن القرار كان في ميدان
التحرير.
ربما يبدو تصور تكرار المثال المصري هنا ضرباً من الخيال في التوقيت
الراهن بيد أنه غير مستبعد في ظل المزاج الثوري العارم الذي يجتاح البلاد
العربية.
المصدر اونلاين