الحمد لله الولي الحميد الفعال لما يريد , الذي خضعت له الرقاب وذلت له جميع العبيد , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده , لا شريك له ولا نديد , وأن محمدا عبده ورسوله , سيد الرسل وخلاصة العبيد ; اللهم صل على محمد , وعلى آله وأصحابه أولي الأخلاق الفاضلة والقول السديد , ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الوعد والوعيد , وسلم تسليما . أما بعد , أيها الناس ,
اتقوا الله الملك العلام , وبادروا إلى حج بيته الحرام , واغتنموا ما فيه من الأجور العظيمة ومغفرة الذنوب والآثام ; أما علمتم أن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة , وأنه ينفي الفقر والذنوب ويوجب كل خير من ذي الكرم والمنة ؟ أتدرون ما هو الحج المبرور ؟ هو الذي جمع بين الإخلاص والمتابعة : الإخلاص للمعبود والمتابعة للرسول ; أما الإخلاص : فأن يقصد العبد بحجه وجه ربه وطلب رضوانه , والفوز بمغفرته وثوابه وجنانه , فيكون العبد محتسبا في همه ونصبه ونفقاته , راجيا للثواب في حله وترحاله وسعيه وخطواته , عالما أنه في عبادة متصلة من خروجه من وطنه بل من شروعه في استعداده وجمع آلاته , فهو في عبادة في جميع حركاته وسكناته , إلى أن يرجع إلى مقره حائزا للسلامة والقبول والغنيمة الرابحة ومضاعفة حسناته ; وأما المتابعة للرسول : فأن يقتدي به في حجه وعمرته في أقواله وأفعاله , فإنه قال : ( خذوا عني مناسككم ) وهذا شامل لجميع أحواله . وقد أمر أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي أن يحرموا بالعمرة , متمتعين بها إلى الحج , فعندما يأتي أحدكم الميقات فليغتسل ويتنطف ويتطيب , ثم ليتجرد من اللباس المعتاد ويلبس إزارا ورداء أبيضين نظيفين ونعلين ; ثم إذا صلى الصلاة الحاضرة نوى الإحرام بالعمرة متمتعا بها إلى الحج , فيقول على وجه الإخلاص والتعظيم , والخضوع للملك العظيم : لبيك عمرة , ثم ليهل بالتلبية والتوحيد : لبيك اللهم لبيك , لبيك لا شريك لك لبيك , إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك .
هذه تلبية النبي صلى الله عليه وسلم , فلا يزال أحدكم يلبي بها , وكلما كرر التلبية عدة مرات ذكر فيها نسكه . لبيك عمرة . ثم اعلموا أن المقصود من كشف الرأس ولبس الإحرام ونزع المخيط , هو الانكسار والذل والإنابة للرب المحيط , فليكن الخشوع ملازما لكم في ظاهركم وباطنكم , وفي أقوالكم وأفعالكم , الإهلال بالتلبية شعاركم , وآثار الذل من هيئة الإحرام وصفته دثاركم , والخشوع والخضوع ملء قلوبكم , والطمع في مغفرة الله ورحمته وأجره غاية مطلوبكم . وعند وصولكم ودخولكم للمسجد الحرام , فارفعوا قلوبكم وأكفكم وأصواتكم للملك العلام , قائلين : " اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ; اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما ومهابة وبرا , وزد من عظمه ممن حجه واعتمره تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة وبرا . الحمد لله رب العالمين " , ثم أسرعوا في طواف العمرة خاشعين , واستلموا الحجر الأسود مقبلين , قائلين : " بسم الله والله أكبر , اللهم إيمانا بك , وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك , واتباعا لسنة نبيك محمد " , وأفضل ما ينبغي أن يقال في الطواف والسعي وسائر المناسك : أن يكثر من ذكر الله والتسبيح والتحميد والتكبير , فإنما شرعت جميع المناسك لإقامة ذكر الملك الكبير , وليدع أحدكم بما أحب من خير الدنيا والآخرة , فإن الله يسبغ على عباده في تلك المشاعر والمواقف النعم الباطنة والظاهرة , فإذا فرغتم من الطواف فصلوا ركعتين خلف المقام . ثم عودوا إلى البيت والحجر بالاستلام . واخرجوا إلى السعي من باب الصفا , ناوين سعي العمرة بالتمام والوفاء , وقولوا : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } [ سورة البقرة : الآية 158 ] وقفوا على الصفا والمروة مستقبلي القبلة , وكبروا الله وهللوه ثلاثا , وقولوا : " لا إله إلا الله وحده , لا شريك له , له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ; لا إله إلا الله , وحده , صدق وعده , ونصر عبده , وهزم الأحزاب وحده " كرروا ذلك ثلاثا , ثم انزلوا ماشين متضرعين , ساعين بين الميلين الأخضرين , بنبيكم مقتدين , ثم احلقوا وقصروا عند الفراغ والتمام , راجين من ربكم القبول والمغفرة وحسن الختام . وبهذا قد تمت عمرتكم , فالبسوا ثيابكم , واحمدوه وسلوه أن يغفر لكم ويجزل ثوابكم ; ثم لا تزالون بحلكم مستمتعين , حتى يكون يوم التروية فتخرجوا إلى منى وعرفات بالحج محرمين , واقفين في تلك المشاعر داعين مستغفرين , متممين لنسككم قاضين تفثكم ببيت ربكم مطوفين , تسألون ربكم أن يجعله حجا مبرورا وسعيا مشكورا وذنبا مغفورا وعملا مقبولا وأجرا موفورا : { الحج أشهر معلومات } الآيات [ سورة البقرة : الآيات 197 وما بعدها ] للاستزادة مجموع خطب الشيخ عبدالرحمن السعدي( رحمه الله) في المواضيع النافعة .
من موقع الشيخ ابن سعدي رحمه الله