المصدر أونلاين - خالد عبدالهادي تناول الرئيس علي عبدالله صالح الكأس أربع مرات لارتشاف الماء ودفع جسمه
مرات كثيرة ليعيد الاستواء على مقعده خلال حوار مع تلفزيون العربية يوم
السبت الماضي في مؤشر على المأزق الذي يعيشه.
كان واضحاً اليأس الذي يتملك نفسية الرئيس واضطراب حركاته بالرغم من
الملاطفات التي حاول اصطناعها ليبدو في وضع طبيعي لكن ريقه الذي جف مراراً
كان يشي بالحال الحقيقية له بعد أن فقد شرعيته الشعبية وكثيراً من سلطاته
النافذة.
تلك النشوة المؤقتة التي ظهرت على مواقف صالح وتصريحاته قد تكون حقيقية
إلى نفسه بعد أن استطاع وأركان حكمه المتضعضع استيعاب صدمة الاستقالات
واسعة النطاق خلال أسبوع الثورة الرابع وكادت تطيح بالحكم بعد الانشقاق
الكبير لقادة الجيش بزعامة اللواء علي محسن صالح قائد المنطقة العسكرية
الشمالية الغربية قائد الفرقة الأولى مدرعة التي تتخذ العاصمة صنعاء مقراً
لها.
استدعى صالح لهجة تحدٍ وتهديد وحرص على الظهور متأنقاً بربطة عنق كحلية
اللون في نفس اليوم الذي كان مقرراً أن يسلم فيه السلطة وفقاً لاتفاق مع
مفاوضين من المعارضة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية وقيادة
الجيش المنشق.
وفضلاً عن ذلك، هدد الرئيس المحصور داخل قصره المحاط بسور شاسع في صنعاء
بإشعال حرب أهلية وتفكيك البلاد إلى أربع دويلات في حال تسربت السلطة من
قبضته كما لازم لعبته الخاسرة بتهديد دول المنطقة المجاورة من الخطر
اليمني.
والحقيقة الساطعة التي تبدت اليوم لكل مواطني البلاد هي أن صالح هو
القنبلة الحقيقية التي ظلت تفتك بهم على مدى أكثر من ثلاثة عقود ومع ذهابه
يصر على تفجير صاعقها الرئيس وسطهم. قال صالح إن "اليمن قنبلة موقوتة" غير مدرك أنه أدان نفسه بذلك التقدير
غير المسؤول إطلاقاً. بعبارة أخرى خلص صالح في أيام حكمه الأخيرة إلى أنه
صنع من اليمن خلال 33 عاماً قنبلة بشرية كبيرة وهي البلاد التي تقلد حكمها
وليس بها شظية واحدة من تلك التي صنعت قنبلته الموقوتة.
اللؤم وشيطنة المواطنين؛ تكاد هاتان الصفتان تجمعان بين معظم الزعماء
العرب الأكثر دكتاتورية وانتفاخاً كاذباً، ففي مقابل تسامح يقترب من الذل
لدى المواطنين العرب الذين صبروا على حكامهم ما بين أربعة إلى ثلاثة عقود،
يرفض هؤلاء الحكام وفي مقدمتهم القذافي وصالح التنحي عن مستقبل شعوبهم أو
التخلي عن بضعة أشهر من فتراتهم الرئاسية مثلما حاول الرئيس المصري المخلوع
محمد حسني مبارك ويفعل صالح الآن بالرغم من أن الفترات الرئاسية التي
يتحججون بها هي افتراضية ومزورة، لم تنتج عن اختيار شعبي نزيه.
كما ينتهج صالح والقذافي أسلوباً رخيصاً في شيطنة مواطنيهم وإظهارهم
كمجاميع من الأشرار الذين لا يعرف إلا هذان المتسلطان كبح جماحهم ومنعهم من
التعرض لمصالح العالم ونسف أمنه.
نعت القذافي المنتفضين ضده بأنهم من أعضاء القاعدة ومتعاطيي أقراص الهلوسة
والمخدرات. وردد صالح نفس الفرية قائلاً إن من يثورون على حكمه مرتبطون
بتنظيم القاعدة وتجار مخدرات. هذا التشابه في الدعاية يوضح كيف أن
الاستبداد يزرع في ذوات أصحابه سيكولوجيات منحرفة متشابهة.
بل إن صالح أفصح يوم الأحد الماضي عن منحى جديد: خطب في الأعضاء المتبقين
داخل اللجنة الدائمة للمؤتمر الشعبي العام وحاول جبر خواطر قادة حزبه الذين
لا وزن لهم في أي من القرارات الحاسمة المتصلة بالبلاد والمؤتمر نفسه
قائلاً إنه لم يكن يتخذ أي قرار يخص الحوار مع المعارضة إلا بالتدارس معهم
لكن بعد قليل سيخلع عباءته الديمقراطية على نحو فاضح. لا يستطيع المستمع لهذه الخطابات التصديق أنها تصدر عن رئيس جمهورية.ولو
لم يشاهده لظن أن أمير حرب أو زعيم مليشيا كان يحرك لسانه متوعدا.
أمر صالح بطرد أعضاء حزبه المستقيلين من عضوية اللجنة الدائمة (اللجنة
المركزية) بسبب قمع المحتجين. وعلى الفور اتبع أمره الأول بأن أمر لجنة
المؤتمر العامة باتخاذ هذا القرار بعد أن توصي به اللجنة الدائمة.
وقال "أولئك كانوا مدسوسين على المؤتمر وجميل ان يخففوا عبئهم على كاهل
المؤتمر وأن يتم فصلهم من المؤتمر تماما وعلى نائب رئيس الرقابة بالمؤتمر
أن يعد كشفاً بأسمائهم ويسلمه للجنة العامة واللجنة العامة تأخذ (تفويض) من
اللجنة الدائمة لاتخاذ قرار الفصل لكل ضعيف ومهزوز وأصحاب المواقف
المزدوجة".
في تلك الجلسة، تحول صالح من سياسي ديمقراطي إلى دكتاتور داخل حزبه وكان
شبيهاً إلى حد كبير بالرئيس العراقي الراحل صدام حسين حين تقلد رئاسة بلاده
في 1979 وشرع في عقد اجتماع لحزب البعث قبل أن ينادي علناً بأسماء 23
مسؤولاً بعثياً اقتيدوا إلى الإعدام في ما أطلق عليه "تطهير" البعث من
الخونة.
وحالياً، صار صالح يعتقد أنه سيفارق الحكم في أجل قريب، لذلك بدأ يتحدث
لأول مرة عن تمسكه برئاسة المؤتمر الشعبي العام والادعاء بأنه رفض اتفاق
تسليم السلطة بعد أن اشترطت عليه المعارضة اعتزال العمل السياسي مع حزبه.
وهو بهذه الحبكة يريد رفع أسهمه لدى المؤتمريين الذين يؤمنون أنه لم يحكم
بحزبه في يوم ما وتضليلهم بأن له إلهاماً قيادياً، تخشاه الأحزاب السياسية
المعارضة وعليهم التمسك به.
كما أضاف صالح في حديثه لتلفزيون العربية أنه حتى إذا تنحى عن رئاسة
البلاد فسيتمسك برئاسة المؤتمر ويشاغل المعارضة أسوأ مما تشاغله هي الآن.
قال ذلك وهو يضحك مثل مراهق يفخر بطيشه ولا صلة له بالسياسة مطلقا.
والعبرة في هذه المسألة أن على المؤتمريين الحريصين على إعادة بناء
المؤتمر ليكون حزباً سياسياً حقيقياً بعيداً عن السلطة أخذ حذرهم من
الدكتاتور القادم ليلقي ثقله الاستبدادي كله داخل الحزب بعد أن كانت معدلات
الاستبداد لديه تتوزع على إدارة شؤون السلطات والمؤتمر.
فبعد أن تخلى كل الذين كدسهم صالح حوله عبر ثلاثة عقود من الشيوخ القبليين
والمنتفعين الطيبين والوافدين من أحزاب أخرى بالإغراء والترهيب، يتمنى
الرئيس أن يكون رئيساً لتنظيم حديدي يسانده في مواجهة الثورة المنذرة
باقتلاع حكمه وانقلبت هذه المنى في شكل تلويحات له بالعودة لقيادة حزبه
وصنع أشياء ذات بال معه.
بتقدير واقعي، لن تكون رئاسة المؤتمر متاحة لصالح لاحقاً كما يخطط إلا في
حال سلم السلطة الآن دون التسبب بمزيد من المتاعب للوطن المنهك جراء سني
حكمه والصراعات الداخلية التي نشأت من سوء سياساته لأنه إن عاند أكثر في
الإمساك بالسلطة واقترف خطايا إضافية كمذبحة ساحة التغيير بصنعاء فلن يضمن
مغادرة آمنة للحكم من الأساس فضلاً عن أنه لن يغدو مقبولاً لدى حزبه حتى في
مستوى العضوية العادية.
وعلاوة على ذلك، لن يكون صالح في مأمن من الملاحقة القانونية سواء المحلية
او الدولية حتى في حال سلم السلطة بالكلفة التي سُجلت حتى الآن أو تعهدت
له الأطراف المفاوضة بغض الطرف عن مقاضاته إذ أن التحالفات الشبابية
المكونة للثورة الشعبية لن تفرط في هذا الحق.
يتخيل الرئيس علي عبدالله صالح معادلة غير واقعية في ذهنه لمسار حياته أي
أنه يريد أن يظل ذلك الزعيم القيادي في زمنين مختلفين وواقعين سياسيين غير
متشابهين لكن التطور التاريخي والسياسي كفيل بتحطيم هذا الطموح الجشع، فعقب
هذه الثورة الشعبية لن يحتكم إيقاع السياسة للأدوات البدائية التي أرادها
صالح أن تسود في عهده كالمال وإمكانيات السلطة ونفوذ الشيوخ القبليين، كما
أن البريق الخادع الذي يتلفع به حالياً، سيزول مثل طلاء مزيف بعد مفارقته
للسلطة.
هذا مصير الرئيس فكيف يبدو مصير الثورة التي مضى عليها ستة أسابيع. من المفيد لهذا الرجل إدراك أنه سيكون محظوظاً لو اختلف مصيره قليلاً فقط
عن مصير نظيريه المخلوعين زين العابدين بن علي وحسني مبارك.
اجتازت الثورة منتصف المسافة عقب مذبحة صنعاء التي قتل فيها النظام 53
محتجاً بما أكسبها ذلك الحدث الوحشي من حجة أخلاقية نافذة، استقطبت بعد
ساعات من وقوع المذبحة عدداً كبيراً من المناصرين والمتعاطفين قبل أن
تستقطب قوات الجيش بقيادة اللواء علي محسن صالح الذي يدين له صالح بثلاثة
عقود من الحكم.
وباغت محسن غريمه باستقطاب أعداد غير متوقعة من القادة العسكريين
والمسؤولين الحكوميين والدبلوماسيين إلى صف الثورة في خطوة منسقة كادت تطيح
بالنظام لولا أنه امتص المفاجأة التي انتهى مفعولها عند رفع الغطاء
السياسي والدبلوماسي عنه بعد أن كان تعرى أخلاقياً بقتل المحتجين في الجمعة
الدامية.
تراجعت لحظات الذروة التي كانت الثورة بلغتها في الحادي والعشرين من مارس
وبدا أن بعضاً من الملل قد نال من نفسيات المعتصمين الذين تمتعوا بإثارة
منعشة يوم انهمار الاستقالات من الحزب الحاكم ونظام صالح ثم توقف هذا
الإنجاز المتسارع ليعود إلى طبيعته العادية ذات الإيقاع الزمني المعتاد.
غير أن الخشية من الانحسار الشعبي عن الثورة تبددت بخروج ملايين المواطنين
للتظاهر يوم الجمعة الماضي الذي أطلق عليه "جمعة الرحيل" ثم اتخاذ اللجان
الثورية الشبابية قراراً بتصعيد الاحتجاجات أيام الاثنين والأربعاء
والجمعة.
وبموازاة الزخم الشعبي الذي حافظت عليه الثورة، يظل التحدي الذي تزعمه
اللواء علي محسن مسألة تؤرق صالح وتجرح غروره على نحو قاتل بوصفه شخصاً لا
توقفه سوى القوة. وقد تجلى ذلك التأثر من خلال تهديده بالحرب الأهلية وكذا
التهديد بقصف مقر الفرقة الأولى مدرعة وساحة التغيير بصنعاء.
عملياً، شرع صالح في استخدام ورقة الفوضى بسحب قوى الأمن من المناطق
المضطربة لإغراق المجتمع في الفوضى الأمنية وسمح ذلك لعناصر القاعدة
بالسيطرة على مدينتي جعار وخنفر في أبين حيث لقي نحو 110 أشخاص مصرعهم في
تفجير مصنع أكتوبر للذخيرة وهي كارثة يمكن للنظام أن يكررها في مناطق أخرى.
ولم يتبقً للنظام سوى ورقة الحرب الأهلية، لكن صالح حين يهدد بها، يشير في
قرارة نفسه إلى التناحر العسكري بين قوات الحرس الجمهوري التي مازالت
موالية له وقوات الجيش الأخرى الموالية لعلي محسن وهو الصراع الذي يمنع
التوازن العسكري بين الفريقين من وقوعه.
لا يملك صالح حالياً نقاط تفوق لكنه قد يبادر إلى ضربة هجومية يائسة في
حال أيقن أنه صار خارج السلطة، فامتلاك حاكم مجنون على السلطة قوات جيدة
التسليح والإعداد وترسانة أسلحة فاعلة وملاجئ تخترق الجبال المحيطة بصنعاء
هو أمر يثير الخوف.
الضربة الانتقامية اليائسة هي أسوأ الاحتمالات لنهاية الرئيس في حال أصر
على التمسك بالسلطة. أما الحرب الأهلية أو حتى التناحر العسكري فلن يجد
صالح معه سوى قلة من عشيرته ورفاقه الحاليين المتخوفين من الملاحقة
القانونية إذ لن يكون مقنعاً لأفراد الحرس الجمهوري التضحية بأنفسهم في
سبيل قضية خاسرة. لن يصبح صالح إذا فضل الحل العسكري أكثر من أمير حرب صغير، يشن اعتداءات إجرامية واغتيالات موجهة لكنه سرعان ما سيسقط.
غير أن التصعيد الشعبي السلمي وتوسيعه ليشمل العصيان المدني وأشكال
الاحتجاجات الأخرى هو الرهان الكفيل بهزم خيار العنف. إنها معادلة موزونة:
إذا برح الناس أماكنهم في ساحات الثورة أمكن للنظام عسكرتها.