المصدر أونلاين - خالد عبدالهادي
قد تؤلف السطور التالية آخر مقالة، يتلازم فيها اسم علي عبدالله صالح مع صفة الرئيس إن لم تحدث خوارق تطيل في أرماقه.
يوم الاثنين كان خيالياً بحق؛ كأن كل الناس يتسابقون أيهم يركض بعيداً من
الرئيس الذي كانت أفئدة كثيرة تلهث وراء علامة رضا في جبينه أو تلويحة سلام
من يده لتنتهي به الحال مع مقربيه وبلاطه المتهالك مثل كيان مجذوم داخل
البلاد، ينفر منه الأصحاء.
ويحرضهم على ذلك خطب مروع بالفعل فقد مرت أربعة أيام من المذبحة الرهيبة
ضد المعتصمين في ساحة التغيير بصنعاء حيث سقط قرابة 52 محتجاً برصاص قناصة
مهرة صوبوا الرصاص بدقة عالية إلى جماجم المحتجين وصدورهم في أدمى هجوم على
المحتجين المطالبين بتنحي نظام الرئيس علي عبدالله صالح عن الحكم.
لقد أينع الدم سريعاً وأثمر قوة أخلاقية هائلة غزت مكاتب الوزراء والسفراء
وثكنات الجيش وضمائر المؤتمريين عامة فانهمرت الاستقالات تترى على مدى
ثلاثة أيام، عجز خلالها صالح عن مجاراتها بتعيينات جديدة ترمم نظامه
المحتضر.
لكن يوم الاثنين كان استثنائياً وبدا فيه أن اليمن كلها نبذت علي عبدالله
صالح وعصبته الأقربين من المتصابين الذين جاهروا بإراقة الدماء مستخفين
بالعواقب.
فبعد أن تساقطت أوراق القبيلة والانفصال والانقسام الاجتماعي من ذخيرة
النظام في مواجهة الثورة الشعبية، سقطت ورقة الجيش يوم الاثنين في انهيار
درامي متسارع عادة ما يرافق الساعات الأخيرة من أعمار الأنظمة المطاحة كما
جرى في تونس ومصر. انضم كبار قادة الجيش القدامى إلى صف الثورة ولحق بهم
قادة الألوية وكبار الضباط تباعاً في مخطط من المؤكد أنه خضع لتنسيق محكم.
يبدو أن الجميع ينفض من حول الرئيس صالح وفي حال تواصلت الاستقالات بنفس
الوتيرة، لن يكمل الأسبوع إلا وهو عار باستثناء من عصبته القريبة
والمرضوضين أخلاقياً عديمي النفع.
يوم السبت، كانت اليمن جريحة ودامية بالفعل بعد يوم من الإرهاب الفظيع ضد
المحتجين الشبان الذين انتهوا للتو من صلاة الجمعة وباشروا الهتاف بسقوط
نظام صالح قبل أن ينهمر الرصاص عليهم بوحشية رهيبة.
كان السماء غائمة فاكتست البلاد وجهاً حزيناً وشمساً كسيفة . في ساحة
التغيير بصنعاء كان الدم يصبغ المكان ويمنحه عبقاً زكياً بينما يغشاه جو من
المهابة والرحمة والحزن النبيل لكن الحياة كانت تضج فيه لتعلن أن المسيرة
موصولة لم تقطعها العيارات الغادرة ولتبرز قيمة "الاستشهاد" التي ذاقها
أولئك الشبان البررة ليمنحوا ملايين من خلفهم حياة كريمة.
في إحدى جنبات ساحة التغيير وتحديداً أمام المستشفى الإيراني، تألفت صورة
ذات دلالة مدوية على صدق المحتجين وفجور القتلة الذين صبوا عليهم الرصاص
بقسوة اقتطعت من جهنم: طاقية متواضعة كانت على رأس شاب وأُلصق عليها حزام
ورقي كتب عليه "انا الشهيد القادم" وبالفعل أطاحت رصاصة غادرة يوم الجمعة
برأس صاحب الطاقية وخلفت الطاقية هناك مصبوغة بالدم..الآن أحاط المحتجون
طاقية رفيقهم الراحل بدائرة من الحجارة الصغيرة وكتبوا حولها التوضيح
التالي " هذا مخ الشهيد محمد علي العماد ودمه".
نبتت طاقية العماد مثل بجعة بيضاء، تزف السلام للمحتجين وتحثهم على مواصلة
الثورة وبالمقابل تذكر بوحشية القتلة الذين سفحوا نهراً من الدم في مؤامرة
بشعة من نظام صالح لاتخاذها مبرراً من أجل وقف الحياة المدنية وإعلان حالة
الطوارىء التي ظن النظام أنها حيلة فاعلة لهزم الثورة وإضفاء طابع قانوني
لقمع اعتصاماتها المفتوحة.
وقد مثل تشييع عدد كبير من شهداء الجمعة الدامية يوم الأحد الماضي دلالة
على الغضب الشعبي الصادق حيال تلك المذبحة المهولة فاحتشد مئات الآلاف في
تشييعهم ليشكلوا لهم جنازة مهيبة لم يحظَ بها أحد من الزعماء والساسة
وزعماء القبائل أو علماء الدين من قبل.
انتفض اليمنيون بعفوية وصدق بعد أن شاهدوا على شاشات التلفزة بركة دم
صارخة تسيل من جماجم وقلوب شبان في غاية الوداعة واللطف، قتلهم قناصة صالح
الذي بالغ في إهانة مواطنيه واستغفالهم غير مدرك أن سفح الدم بتلك الفظاعة
سيغير المعادلة كلية.
وقع صالح في فخ الدم بالرغم من أنه محترف في التعامل معه منذ أيام حكمه الأولى ومدمن عليه لكنه أغفل من حسبته عامل الصورة .
كانت خطة محكمة لتنفيذ الجريمة وجرى التخطيط لها فيما يبدو من المؤشرات
الأولى قبل أسابيع بما في ذلك من استئجار البنايات الواقعة داخل موقع
الاعتصام وذات الشرفات التي تمكن القناصة من التمركز الجيد للانقضاض على
ضحاياهم وكذا تجهيز القناصة بالبنادق الرشاشة الكبيرة التي تستخدم طلقات
نارية كبيرة، تكفي الواحدة منها لكسر جمجمة الرأس كما هو راسخ في مبادىء
القنص.
لكن غاب عن مخططي الهجوم أن عدسات التصوير منتشرة في أرجاء الساحة وملحقة بمعظم الهواتف المحمولة.
هم تصوروا أن مصوراً واحداً مختصاً سيتولى تصوير أي هجوم يقع على المحتجين
لذلك يظهر في أحد مقاطع الفيديو عن هجوم الجمعة كيف أن أحد القناصة انتقى
شخصاً كان يصور بكاميرا صغيرة من بين الحشود وصوب إلى جمجمته رصاصة قاتلة
أردته على الفور إضافة إلى قنص الصحفي جمال الشرعبي أحد ضحايا المذبحة.
لذلك سيظهر صالح في أعقاب المذبحة ليستفز الناس أكثر قائلاً إن سكان
الأحياء المجاورة هم من يقفون خلفها ويخلع عليهم لقب الشهداء معلناً أن
حكومته ستتولى رعاية ذويهم بما ينطوي عليه ذلك من إساءة كبيرة لسكان
الأحياء المسالمين وتصويرهم بمجرمين يسفكون بحيرة من الدم.
من حسن حظ الحقيقة أن صالح ظل يحكم حتى عصر الثورة التقنية والتوثيق
التلفزيوني المباشر واقترف آخر جرائمه في ظلها حتى لا يغادر المسرح السياسي
بانطباع مزيف يصوره على أنه زعيم سياسي، أسهم في إرساء الديمقراطية كما
حاولت وسائل الإعلام المسخرة له ترسيخ هذا الانطباع على مدى سنوات.
فالثابت أن صالح أدمن على الجرائم باحتراف، اقترف جرائمه كلها بأدوات
ثانوية تخلص منها لاحقاً ودون أن يترك أدلة دامغة تدينه..كان ينفذ جرائمه
في الظلام وغفل يوم الجمعة الماضي أن الثورة التقنية الخرافية قد أوصلت
أشعة الضوء إلى كل زاوية في الأرض.
قال مجاهد القهالي القائد العسكري والسياسي وأحد حلفاء صالح الكبار الآن
في حديث لصحيفة النداء المستقلة قبل نحو ثلاثة أعوام إن الزعيم السياسي
الاشتراكي الراحل جار الله عمر أخبره قبل مقتله بفترة وجيزة بينما كان في
زيارة لدولة الإمارات العربية المتحدة حيث كان يقيم القهالي قسراً منذ 1994
أن صالح اتصل به وهدده صراحة: إذا لم تكف عن (حركاتك) فسأقتلك قتلة يسمع
بها العالم.
ولم تمضِ سوى أشهر حتى أفرغ متطرف مهووس بالجهاد رصاصات مسدسه في صدر جار
الله عمر ليرديه قتيلاً في قتلة سمع بها العالم حقاً وفي نهاية المطاف،
أُعدم القاتل وطويت القضية. المهم أن نظام صالح أسكته نهائياً وتخلص من
أداة الجريمة.
المعروف أيضاً أن صالح افتتح حكمه في 1978 بسحق الحركة الناصرية البيضاء
وإعدام أبرز قادتها مع إخفاء عدد آخر لم تعرف وجوههم النور إلى اليوم فضلاً
عن إخفاء عشرات من النشطاء اليساريين طيلة سنوات العمل السياسي السري التي
امتدت من 1978 حتى 1990.
وحتى بعد قيام الوحدة مقرونة بالتعددية السياسية في 1990، يقول
الاشتراكيون إن هذا النظام نفسه اغتال نحو 155 من قادة حزبهم وكوادره خلال
الأزمة السياسية التي امتدت حتى الحرب الأهلية في 1994 وهي الحرب التي سقط
فيها نحو سبعة آلاف شخص بين عسكري ومدني وفقاً لتقديرات حكومية وأكمل فيها
الرئيس هيمنته على بلاد شاسعة، يجري فيها النفط وتمتد على جوانبها شواطئ
خلابة بمئات الأميال لكنه مع ذلك راح ينتقم بشراسة من مواطني الدولة
الجديدة التي أخضعها بالقوة وأذاق موظفيها صنوفاً من الإذلال والتسريح
والإقصاء والقتل.
مع مطلع الألفية الثالثة، لم يكن صالح قد تورع عن الدم، ففي منتصف 2004
سيشن عملية عسكرية عنيفة في منطقة مران بصعدة ويقتل الزعيم الزيدي حسين بدر
الدين الحوثي الذي نادى بأفكار دينية ذات مضامين سياسية رأى فيها فيها
صالح خطراً ينازعه السيطرة التي كان قد أحكمها تماماً على البلاد تماما.
غرق صالح في صعدة لتشن قواته ست جولات من القتال الطاحن ضد المسلحين
الحوثيين ولم يخرج منها إلا في 2010 بعد أن اقترف فظائع مهولة بحق المدنيين
الذين أفنى منهم آلافاً وشرد عشرات الألوف.
وبالتزامن مع لظى الحرب بصعدة، دارت آلة صالح العسكرية في مناطق الجنوب
التي انتفض سكانها في 2007 احتجاجاً على الواقع المهين المفروض عليهم منذ
1994 وهناك قتلت القوات النظامية مئات المحتجين المسالمين وأصابت آلافاً
فيما رفض النظام في عناد متصلب الإقرار بحقوقهم السياسية.
لذلك، بقدر ما مثلته تلك اللحظات الصعبة من وجع إنساني حين شاهد العالم
عشرات الشبان المضرجين بدمائهم في ما يشبه عملية إعدام واسعة النطاق فإن
تلك المشاهد كانت توثيقاً متجرداً لحقيقية تتصل بالرئيس صالح وإنصافاً
تاريخياً لو لم يحدث لتسلل زور فاضح إلى ثنايا التاريخ السياسي اليمني،
يصور الأول أنه رجل حوار وزعيم ديمقراطي متسامح بلا حدود.
في التراث العربي، كان الفرسان يبوحون بعزلتهم بما يوحي أنهم يملكون
خصالاً متفردة عن غيرهم من أفراد المجتمع فشبه أحدهم نفسه بأنه صار كالسيف
وحيداً وأضاف آخر أن عشيرته اعتزلته كما لو أنه بعير أجرب مطلي بالقطران.
أما الرئيس علي عبدالله صالح فليس بوسعه أن يقر بعزلته. لقد نبذه اليمنيون
كافة وتسابق قادة الجيش ومعظم المسؤولين الحكوميين والسفراء وزعماء
القبائل وقادة حزبه على إعلان استقالاتهم من الخدمة في ظل نظامه.
وهذه العزلة الأخلاقية والسياسية المضروبة عليه جزء من الإذلال والعقاب
الشعبي العادل وقطعاً لكثير من الأصوات المتشابهة المنادية بمساعدته على
مغادرة الحكم بصورة لائقة غير مدركة أن بعضاً من قيمة الثورة يكمن في مثل
هذا العقاب الشعبي.
تخثرت دماء الشهداء الذين قضوا يوم الجمعة على أسفلت الساحة وبلاط
المشفى.. لكن لا تدعوها تتخثر في شرايينكم حتى لا يتوقف نبض الثورة.