المصدر أونلاين - خالد عبدالهادي خرج طالب الثانوية مازن عقلان من إحدى أكبر المدارس في البلاد لينتظم مع
آلاف من زملائه في مظاهرة لإسقاط نظام الرئيس علي عبدالله صالح.
قال الفتى الذي بدأت البثور تنتشر في وجهه واختير ليكون متحدثاً باسم
الحركة الطلابية في محافظة تعز وهو يلهث الأنفاس خلال تظاهرة "لا نريد
مبادرته (الرئيس) لم نرَ منه إلا التهديد والتجويع".
يصور هذا المشهد طبيعة المواجهة التاريخية الراهنة بجلاء يغني عن التفاصيل الغائرة في وجدان الفريقين.
وفي الفريق المقابل قال الشيخ القبلي الكبير حمود عاطف للتلفزيون الحكومي
وهو يمسك المايكرفون بيد مرتعشة "هؤلاء لا شيء، جهَّال ومن عمال الشوارع"
في إشارة إلى المحتجين المطالبين بإسقاط النظام. يكفي ذكر حمود عاطف أحد كبار شيوخ قبائل حاشد لتقفز إلى الذهن أيقونة
رمزية للتخلف والجمود والوصاية الهرمة فيما من السهولة استشراف الأمل
والأشواق الرهينة في وجه أي شاب في ساحات الاحتجاجات الممتدة على خارطة
البلاد.
إنها مواجهة بين الحداثة والتخلف وقد انحاز كل فريق إلى القيم التي يرى
نفسه جزءاً منها، لذلك يمكن فهم كيف أن مكاناً صغيراً كساحة التغيير
بالعاصمة صنعاء مثلاً تتجاوز فيه خيام أساتذة الجامعات وقبائل بني ضبيان
والعمال الكادحين مع رجال الأعمال واختلافات شتى يوحدها الشوق إلى حال
مختلفة عما تعيشه.
وفق هذا التمايز الحاد يمكن القول باطمئنان إن نظام صالح يخوض مواجهة
خاسرة وأخيرة لأنه يستطلع ساحات الثائرين ضده من خرم ضيق كذلك الذي يخترق
عقلية حمود عاطف الصماء.
ولا يسمح هذا الخرم بمرور الصورة الحقيقية لما يجري إذ يرى في الثائرين مجرد صغار وشغيلة جُلبوا من الشوارع ليحدثوا ضجة مؤقتة.
وبقدر ما يعكس تصريح حمود عاطف بوصفة لبنة كبيرة في بنية النظام بشأن حدث
ثوري كبير من تقدير قاصر وخاطئ فهو يظهر شيئاً من مبادئ الذهنية التي حكم
بها الرئيس ومعاونوه طيلة 33 عاماً ونظرتهم إلى مجموع الشعب، فهذا التصريح
يشفط بعضاً من الوعي الباطن في أدمغة رجالات النظام ويخرجه إلى العلن.
الزمن الثقيل الذي ساد فيه هذا المنطق الاحتقاري ينحدر سريعاً نحو الأفول وهذا ما يبعث على البهجة والاحتفاء.
وتنبع خسارة صالح للمواجهة من أنه يواجه خصماً شديد الإبهام لديه ويستخدم أدوات مبهمة أيضاً وفي مكان وزمن مكشوفين.
يفترض التصريح الوارد على لسان عاطف وهو يفكر هنا للنظام كله المعادلة
التالية: خُلقنا لنكون حكاماً وأصحاب قرار، أما هؤلاء فلا وزن لهم مهما كثر
عددهم لأنهم صغار وعمال شوارع ولا قرار لهم.
لكن الآن من منا لا يتخيل الرئيس وهو يعض أصابعه حسيراً وخائباً في إحدى
زوايا قصره فيما شاشات التلفزة تعرض كتلاً بشرية مهولة تكيل اللعنات لعهده،
وقواته تقف حائرة ماذا تفعل حيالها.
هذا ما لم يخطر على بال صالح ولم يكن في حسبانه فراح ينشئ جيوشاً ضاربة
ويثقب الجبال المحيطة بعاصمة حكمه لتخزين ترسانة الأسلحة المتنوعة ويوكل
إلى عصبته الأقربين قيادتها. هكذا يطل الخصم المبهم في عين الرئيس فيهدم ترتيباته وقواه: عشرات الآلاف
من تلاميذ المدارس الصغار يجوبون الشوارع في صنعاء وتعز وعدن والمكلا
وغيرها، فضلاً عن مئات الألوف من الشبان المنتظمين في قيادة الثورة وجسدها.
وأمام هذا المشهد الرهيب، يجد الرئيس كل خطوط الدفاع التي أفنى سنوات حكمه
في تحصينها مشلولة الحركة إذ ماذا بإمكان القوات الخاصة وقوات الحرس
الجمهوري والأمن المركزي أن تفعل إزاء تلاميذ صغار وفتيان يهرولون في
الشوارع أو يتشبثون بالساحات تحت سمع العالم وبصره.
كان هذا مذهلاً بالتأكيد، لقد انبعثوا فجأة مثل فطر مبارك أخرجته الأرض في
ليلة، ونفذوا حركة التفاف عبقرية في معركة لم يفقه النظام بعد عوامل الربح
والخسارة فيها.
يحتاج الرئيس إلى زمن إضافي كبير ليفهم طبيعة خصمه الذي هدم جداراً
عملاقاً وظهر في هيئة شبح معدَّل من الإنسان العادي كما تحكي أفلام الرعب
تماماً وهذا الوقت لن يسمح المراقب الخفي بتمديده فها هو ينظر في ساعته
ويشير إلى أن الوقت انتهى.
فهؤلاء الشبان لا يشبهون الرئيس في شيء.. لا شيء على الإطلاق، فمتوسط
الفارق العمري بينهما 50 عاماً والأدوات الشائعة لديهم لا تتعدى لوحة
مفاتيح الحاسوب كما يتقنون أكثر من لغة، وبينهم السباك ومهندس الإلكترونيات
والفنان والصيدلاني، إنهم يتوزعون على كل التخصصات العلمية والإنسانية.
يشبه هذا حلماً مزعجاً للرئيس الذي لم يتخيل نفسه من قبل جالساً أمام
طاولة، تضم خلف طرفها المقابل تلك التشكيلة المتنوعة من العاطلين عن العمل
وهو يفاوضهم. كما يضعه ذلك أمام خيال محض إذ كيف عليه أن يصغي إلى سباك في
العشرين من عمره وهو الذي قضى ثلاثة عقود يتحاور مع تشكيلة مختلفة تماماً
تضم ملوكاً ورؤساء ودبلوماسيين كباراً، فضلاً عن خاطفين وشيوخ قبائل
وسياسيين معظمهم في سنه.
وفي هذه المواجهة أيضاً، لا يحل الظلام في أي من ساحات الثورة لاقتراف
جريمة، تنهي أمر الثائرين فالشمس لا تغيب في هذه الألفية وهي هنا عدسة
كاميرا أو هاتف محمول أو راصد لمنظمة عالمية، ينخرط بين المحتجين علاوة على
مواقع اليوتيوب والفيس بوك وتويتر.
الضوء مسلط بقوة على ساحات الثورة حتى شارع الهريش تحول إلى ياقوتة كبيرة.
والهريش بحاجة إلى التعريف بالتأكيد فهو شارع صغير تقطع أوصاله الحفريات
والخدوش الغائرة مثل أي شارع في مدينة تعز التي يقول سكانها إنها صارت قرية
كبيرة في عهد صالح.
لكن القيم الجديدة التي جاءت مع فتيان الثورة منحته الضوء والجهر؛ لقد ظلت
كاميرا "الجزيرة" مسلطة على هذا الشارع الصغير حيث يحتشد هؤلاء طوال ليلة
الاثنين ونهاره لتؤكد أن أي زقاق تصله عين التكنولوجيا واقتراف أي جريمة لن
يكون سراً.
وجدير بالرئيس أن يعض أصابعه مرة أخرى لأنه ضيع الأجيال الطرية التي أشعلت
الثورة ضده بينما انشغل بالترتيب لخطط التدخل السريع من أجل تأمين كرسيه
من أعداء كان يظن أنهم سيهاجمونه بالوسائل التقليدية التي سادت في القرن
الماضي كتمرد الجيش والانقلاب والاغتيال الجسدي.
اختزل صالح أجيال شعبه الشابة في معمر الإرياني، المؤتمري الشاب صاحب
الحظوة الرئاسية التي بوأته موقع وكيل لوزارة الشباب وجائزة سنوية منزوعة
القيمة، توهب بموجب قرارات تحكيم اتضح مؤخراً أن شوائب متعددة تخالطها.
وحتى مع اندلاع الثورة الشابة، لا يبدو أن الرئيس استوعب شيئاً فقد عين
الأحد الماضي عارف الزوكا وزيراً للشباب والرياضة في واحد من أكثر القرارات
التي تظهره كشخص دوخته الأحداث من حوله.
فطبقاً لشهادات الشبان الذين قالوا إن الزوكا تزعم عصابات مسلحة هاجمتهم
بقسوة خلال الأسبوع الأول من الاحتجاجات وطاردتهم في الأزقة والشوارع، يشبه
توزير الأخير على مصالحهم كما لو أن الرئيس قطع رأس واحد منهم وألقاه
إليهم من شرفة عالية.
هذا تصرف بطريقة تائهة لا يمكن تبريرها مطلقاً فالزوكا الذي أدرجه شبان
الثورة ضمن قائمة سوداء بزعماء "البلاطجة" لن يعني لهم سوى طعنة بسلاح أبيض
أو هراوة بيد بلطجي، والقرار يزيد من أوار الثورة ويدفع بها باتجاه الحسم
النهائي.
وهو أيضاً صفعة عمياء من الرئيس لكل أعوانه الذين يفنون جهودهم ويحشدون كل
طاقاتهم الخيرة والسيئة في تسويق الوعود للشبان بأن عهداً جديداً قد بدأ
ليكونوا هم قطب الاهتمام فيه.
جاء قرار توزير عضو الأمانة العامة بالمؤتمر الشعبي الحاكم عارف الزوكا
خلفاً لحمود عباد الذي نُقل لشغل وزارة الأوقاف خلفاً لحمود الهتار بعد
إقالته لأسباب غير معروفة لكن من المرجح أنها متصلة بأدائه المعتدل حيال
الاحتجاجات وانفضاض علماء الدين عن الرئيس.
وصدر هذا القرار بعد يوم واحد من الهجوم الدموي الرهيب على المعتصمين في
ساحة التغيير بصنعاء وهو الهجوم الذي لم يلو على شيء من القوانين والأعراف
الإنسانية وخلف قتيلين وقرابة ألف مصاب منهم 50 حالاتهم بليغة قبل أن تشن
قوى الأمن والعصابات المسلحة هجوماً آخر في اليوم التالي أسفر عن إصابة
عشرات المحتجين.
تؤكد هذه القرارات الشبيهة بأخطاء قاتلة أن الرئيس معزول عن المحيط الشعبي
كما لو أنه يعيش داخل صندوق محكم الإغلاق أو أنه قد يقن بحتمية سقوطه فقرر
التصرف بطيش وإظهار نفسه رجلاً عنيداً، يموت واقفاً دون تقديم تنازلات.
وبدأت القرارات الهوجاء بعد أن ثبت للنظام استحالة العودة إلى ما قبل 11
فبراير وذلك بعد الرفض الشعبي الصارم لعروض الرئيس التي أعلنها يوم الخميس
الماضي في ما أطلق عليها مبادرة، تضمنت صياغة دستور جديد للبلاد وتغيير
نظام الحكم إلى نظام برلماني نهاية 2011.
يتضافر ذلك الانهيار في بنى النظام الأخلاقية والسياسية مع الأداء الفاضح
لوسائل إعلامه التي تتقيأ أسوأ الكذب وأرذله وتعيد صياغة الوقائع على نحو
بالغ الافتراء والتزييف.
لقد سقطت المنظومة الأخلاقية للنظام كلية وهي كانت معطوبة في الأساس إلى
حد إغلاق أبواب المشافي العامة في وجوه الجرحى واستهداف سيارات الإسعاف
والتوعد بإحراق المعتصمين علناً.
فقد ظهر شخص قدم نفسه على شاشة التلفزيون الحكومي على أنه أحد سكان
الأحياء المجاورة لساحة الاعتصام بصنعاء وهو يقسم بأنه ورفاقه سيحرقون
المعتصمين بينما قابل المذيع هذا المنطق الفاشي بابتسامة رضا.
لقد هزم الرئيس وتحطمت موازينه القديمة التي أرساها وفق تقديرات 1978 وحصر
بموجبها التعامل مع اليمنيين في رصاصة وحزمة نقود ليفيق على ميدان ليس
ميدانه ومعركة ليس من فوارسها، لذا انحسرت خياراته في أربعة أسابيع فقط إلى
خيار واحد يتيح له اختيار طريقة رحيمة لمغادرة الحكم.