ثورة الشباب والتغيير في اليمن زيد بن علي الفضيل
حين توالت تصريحات القيادة السياسية في اليمن بدءا من الرئيس علي عبد الله
صالح ومرورا برئيس الوزراء الدكتور علي مجور، بأن اليمن ليست كمصر وتونس
لتنجح فيها ثورة شبابية مماثلة ضد النظام الحاكم، أخذتُ أفكر مليا في هذا
القول وأتفرس في بعض دلالاته السياسية والاجتماعية. ولكن قبل الخوض في
تحليل الخطاب الرسمي والواقع السياسي اليمني، أرى استعادة ما ذكره رئيس
الوزراء الدكتور مجور لشبكة سي.أن.أن حين قال بأنه لا توجد هناك أسباب تدعو
لاندلاع مظاهرات في اليمن على غرار ما جرى في مصر، باعتبار أن اليمن لديه
وضع مختلف لكونه -والكلام له- بلد ديمقراطي عبر كل العقود.
تجدر الإشارة إلى أنه بينما كانت المظاهرات محتدمة في مصر من بعد تونس،
بادر الرئيس اليمني الديمقراطي منذ 32 عاما إلى الإعلان أمام أعضاء مجلسي
النواب والشورى في جلسة طارئة أنه لن يترشح لدورة رئاسية جديدة بعد انتهاء
ولايته عام 2013، وأنه لن يورث ابنه الحكم.
وأطلق وعده الشهير بألا تمديد ولا توريث ولا تصفير للعداد، والمقولة
الأخيرة (أي تصفير العداد) من خصائص الحكم الديمقراطي في اليمن والعالم
العربي، حيث يحدد الدستور فترات الحكم لرئيس الدولة بمدة زمنية معينة،
فيقوم الرئيس بتعديل دستوري لمدة حكمه الزمنية في نهاية مدته الثانية،
ليترشح من جديد ويبدأ من الصفر أخذا بالاعتبار المدة الجديدة في الدستور،
انطلاقا من أن التعديل يجُبّ ما قبله.
هكذا تجري العملية الديمقراطية في العديد من أنظمة الحكم الجمهوعسكرية في
بلداننا العربية، التي تعكس وجها واحدا هو الوجه الاستبدادي البغيض، مهما
تلونت ألسنتها وتعددت خطاباتها، الأمر الذي لم يعد مقبولا ضمن آفاق محيطنا
الشعبي العربي الذي وصل إلى غاية صبره، ولم يعد يطيق مثل هذا التحايل
القميء، فتكسرت جدران الخوف في قلوب الجماهير، فكان ذلك الانتصار الشعبي
الساحق في تونس، وكانت تلك الثورة المجيدة في مصر، وتنادت الصيحات الغاضبة
في كل من ليبيا واليمن وغيرها، مطالبة بالكرامة والحرية والعدالة
والمساواة، معلنة إعادة ترميم ما تكسر في دواخلهم منذ أن امتطى أولئك
العسكر بذهنياتهم المتصلبة سدة الحكم في العديد من أقطار أمتنا الخالدة،
وعملوا بضيق بصيرتهم على الإركاس بأهلهم وشعوبهم وقمع كل المخالفين لهم
بالحديد والنار، بعدما أوهموهم بأنهم مصدر كل السلطات، وأكدوا لهم على مبدأ
التداول السلمي للسلطة، وتعزيز آليات الحركة الديمقراطية في المجتمع.
هكذا تخيّل "التقدميون" مصير بلدانهم في تلك الفترة، وبتلك الصورة أو أقل
منها حلم "التنويريون" بدخول محيط عصر جديد، يكون الإنسان فيه مركز الحياة
لا هامشها، ولمَ لا يكون كذلك وهو مصدر السلطات؟!
لكن لم يتحقق كل ذلك إلا في الجانب الشكلي منه الذي اقتصر على مسميات
الدول، فبعدما كان يطلق على اليمن رسميا مسمى المملكة المتوكلية اليمنية،
أصبح اسمها الجمهورية اليمنية، وبدل مسمى المملكة الليبية، تضخم اسمها
لتصبح الجماهيرية العربية الليبية الاشتراكية العظمى.. وهكذا مع بقية
الأنظمة الجمهوعسكرية في عالمنا العربي والتي اقتصر التغيير فيها على
الأشخاص دون الذهنيات، وانحصرت الممارسة الديمقراطية على الخطب والكلمات،
دون أن تلامس سلوكيات تلك الأنظمة.
وهذا ما يفرض القول بأن تلك البقع من عالمنا العربي لم تعرف معنى التغيير
الحقيقي، ولم يُدرك أبناؤه قيمة وجوهر آليات الحكم الجمهوري، ولهذا لم
تتغير طبيعة السلوكيات السياسية المنظمة للعلاقة بين الحاكم والمحكوم،
والتي كان يفترض أن تقوم على مفاهيم العقد الاجتماعي المستند إلى الحس
التعاقدي الذي تنتفي معه كل صيغ المحسوبيات والمجاملات، غير أن ما حدث كان
العكس، حيث سادت مع طول استمرار فترة الحكم، صور الحس التراحمي في ذهنيات
مثقفي السلطة، إلى الدرجة التي تحولت معه شخصية الحاكم من شخصية وظيفية
يمكن محاسبتها وفق ما يقرره الدستور، إلى شخصية أبوية تترفع عن النصح
والمحاسبة، وهو ما يتوافق مع آليات وقواعد الحكم السلطاني الاستبدادي.
ولم يكن اليمن بعيدا عن تلك الثقافة في كثير من أشكال ممارسته السياسية،
حيث عمل النظام الحاكم خلال جولة الانتخابات الرئاسية الأخيرة عام 2006 على
تبني أطياف الحركة السلفية في اليمن، القائلين بوجوب طاعة ولي الأمر على
أي حال وفي كل حال، والمؤكدين على شرعية رئيس الدولة باعتباره وليا للأمر،
وبالتالي فإن الترشح لمواجهته انتخابيا غير مقبول من وجهة نظرهم.
هذه هي المفارقة المضحكة فعلا التي تقوم عليها الديمقراطية في اليمن، حيث
استأنس النظام الحاكم المؤتمن على مراعاة الدستور والحفاظ على قاعدة
التداول السلمي للسلطة، إلى مثل هذه الأقوال، وعمل على تبنيها بترك مجال
كبير لأفكارها، مع تقريبه عددا من رموزها وتسهيل كل مطالبهم المادية
والخدماتية، في حين كان من الواجب، ومن باب الممارسة الديمقراطية الصادقة
كما يتصور دولة رئيس الوزراء الدكتور مجور، رد مثل هذه الأقوال رسميا، وعدم
الاهتمام بها وبأصحابها على النطاق الرسمي، لكونها تخالف أهم قواعد
الدستور ومرتكزات الحكم الجمهوري الذي تتركز الولاية فيه بيد الشعب عبر
ممثليه المنتخبين، وليس بيد الحاكم الفرد.
على أن الأمر لم يكن له ذلك التأثير الكبير على سير العملية الانتخابية
خلال الجولة الماضية، لكون النتائج قد خطط لحسمها مسبقا وفقا للطريقة
العربية، ولتعدد التيارات الفكرية والسياسية في اليمن، وتعدد مصادر القوة
والنفوذ بين شريحة القبائل المتنفذة والسلطة الحاكمة. والسؤال: هل لا تزال
علائق المشهد السياسي في اليمن ثابتة على طبيعتها من حيث تعدد مكونات
القوة، أم أن الأمر مسّه التغيير أسوة بكثير من الأشياء على خريطة المشهد
السياسي العربي؟
لهذه الأسئلة وغيرها يمكن القول بأهمية تدبر الأمر ومحاولة التبصر في
تحليله لا سيما في محيط اليمن الجغرافي كما هو الحال في ليبيا أيضا،
فالدولتان تتشابهان في عدة مصوغات أسوة بتشابه الأوضاع بين مصر وتونس. وفي
هذا الإطار ليس خافيا على أحد من المتابعين مدى البون الشاسع بين طبيعة
المجتمع في كل من مصر وتونس، الذي انصهرت مكوناته المجتمعية وشكلت لحمة
وطنية جامعة، وبين المجتمع في اليمن الذي لا يزال محتفظا بخصائصه
الاجتماعية القبلية والمناطقية التي لم يتغير حالها منذ قيام العهد
الجمهوري، ولم تتبدل ذهنياتها جراء طول السكنى في المدن، وحتى مع ممارسة
بعض الأعمال ضمن مؤسسات المجتمع المدني بشكل عام. ولعل ذلك مرده إلى ضعف
سلطة الدولة من جهة، وفشلها بالتالي في تأكيد سلطاتها المدنية الدستورية،
مما عزز من مختلف التجمعات القبلية والمناطقية التي شكلت ضمانا يحتمي فيه
الأفراد أمام أي خطر يمكن مواجهته، بل ومثلت سندا لهم في تحقيق غاياتهم
السياسية والاقتصادية بوجه خاص.
من أجل ذلك فقد حرص كل تجمع مناطقي على تعزيز جبهته الداخلية في إطار
الدولة الحديثة، كما حرص كل تجمع قبلي على أن يحافظ على مفاصل قوته
العسكرية بوجه عام، عبر اقتناء الكثير من الأسلحة المتوسطة والثقيلة، وهو
ما يعني تضخم قوة أي قبيلة أمام أي قوة عسكرية تابعة للدولة.
ومن جانب آخر، فإذا كان الجيش مثّل قوة محايدة، وشكل قوة الحسم خلال أحداث
الثورة الشبابية الشعبية في تونس ومصر، فإن الحال مُتغير في اليمن، حيث
تولى قيادة الجيش عدد من أقرباء رئيس الدولة وعشيرته المقربين، إذ يتولى
ابنه العميد الركن أحمد قيادة الحرس الجمهوري، ويتولى ابن أخيه الشقيق
العميد الركن يحيى قيادة الأمن المركزي، في حين يتولى قيادة الفيلق الرئيسي
في الجيش ابن عمه اللواء الركن علي محسن صالح، ويتولى إدارة الأمن القومي
ابن أخيه الشقيق عمار، إلى غير ذلك من المناصب القيادية في مختلف مفاصل
القوات المسلحة اليمنية، وهو ما يخرج الجيش في ذهن أبناء اليمن عن حياديته،
ويجعله أحد فرقاء الصراع وليس قوة الحسم فيه.
وعلى ذلك فقد حرص النظام الحاكم حاليا على تجنيب اليمن أي صراع حقيقي بين
أجهزة السلطة والتجمعات القبلية، وحصر أي مواجهة مهما كانت حدتها في إطار
ما يسمى التفاعل الديمقراطي عبر تسيير المظاهرات وحشد الجماهير في الشارع،
إيمانا بأن ذلك لن يكون له التأثير السلبي الكبير على مفاصل وأركان النظام،
خاصة أن لحزب المؤتمر الشعبي الحاكم الخبرة الكبيرة في تسيير مثل هذه
المظاهرات العامة والاستفادة منها على الصعيد الإعلامي.
بهذا المنطق السياسي تمكنت السلطة الحاكمة من شد أحزاب اللقاء المشترك إلى
مفاصل لعبة ديمقراطية هو قادر على ممارستها، إذ تمكن الحزب الحاكم خلال
هذه التطورات من سبق السيطرة على ميدان التحرير عبر تجميع أنصاره فيه،
وقيادته لمظاهرات مؤيدة لحكم الرئيس علي عبد الله صالح بوجه خاص، عبر رفع
العديد من الشعارات ذات النسق التراحمي، في مقابل تلك المظاهرات المعارضة
لحكم الرئيس والمطالبة بإسقاط النظام والتي انتشرت في العديد من مدن اليمن،
مثل تعز التي تضامن معها عدد من أعضاء الحزب الحاكم في مجلس النواب،
والعديد من مدن المحافظات الجنوبية التي تقودها قوى الحراك الجنوبي منذ
أشهر طويلة.
وواقع الحال أن مختلف هذه المظاهرات -رغم اتفاقها في الأهداف حاليا- يبقى
تأثيرها على المدى القصير ووفقا للذهنية اليمنية غيرَ مجد، وبالتالي فقد
نجح الحزب الحاكم حتى هذه اللحظة في ضعضعة أي غضب عارم كانت إمكانية تضخمه
واردة أسوة بأحداث الثورة في مصر وتونس، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار أن
درجة الوعي تقل بين أطياف الشارع اليمني بمجمله عنها في الشارع المصري بوجه
عام، كما أن تأثير القوى السياسية في اليمن على تكوينات الشارع أخف بكثير
عنها في مصر، علاوة على أن اللحمة الوطنية في اليمن تعيش حالة من التشتت
رغم بروز بعض ملامح التقارب خلال الأزمة الحالية، لكن طبيعة الواقع هي
الغالبة دائما، حيث يعيش اليمنيون حالة من التجاذب السلبي بين مكونات
المجتمع وأطيافه المختلفة، ناهيك عن وجود قدر كبير من الفجوة بين مختلف
القبائل، وظهور حالة من التغاير بين بعضهم البعض جراء سيطرة فئة منهم -خاصة
مشايخ قبيلة حاشد من آل الأحمر- خلال الفترة الماضية على مقاليد الحكم،
مما حفز البعض الآخر بدعم من أجهزة السلطة على البحث عن موضع قدم في حلبة
التقاسم والمكاسب السياسية، الأمر الذي حد من قوة القبيلة أيضا كقوة حسم
بارزة في الوقت الراهن لتغيير النظام بحسب مطالب جزء من الشارع اليمني.
لكن وفي مقابل كل ذلك، باتت حالة الرفض للنظام القائم واضحة على مُحيا
مختلف الكيانات القبلية، وجميع أطياف القوى السياسية والحزبية، وكثير من
أبناء الشارع اليمني، وهو ما يدركه الرئيس علي عبد الله صالح الذي سعى خلال
الفترة الحالية إلى إيجاد صيغ متنوعة لحلول سياسية، عبر موافقته على تعديل
الدستور، وموافقته على تشكيل حكومة وحدة وطنية تحدد جانبا كبيرا من
ملامحها قوى المعارضة، ومن خلال حشده لعلماء اليمن طالبا منهم التدخل منعا
للفتنة.
ويبقى الرهان قائما على مدى تمكن الرئيس صالح من تعميق حدة الخلاف بين
مختلف تلك المكونات، في مقابل قدرتها على إيجاد إستراتيجية موحدة بهدف
القضاء على النظام الحاكم، وإعلان جمهورية يمنية جديدة.
عن الجزيرة نت