النموذج التونسي بين الشعوب وأحزاب المعارضةمراد اسماعيل murads2003@yahoo.com اتجهت أغلب التعليقات والتناولات الخاصة بالحدث التونسي نحو نظراء الرئيس
التونسي المخلوع، من الزعامات التي طال جلوسها فوق كرسي الرئاسة. وفي هذه
السطور نتحدث عن رسالة الحالة التونسية إلى الشعوب المقهورة، والمتعطشة إلى
واقع جديد، يعيد لها الاعتبار، ويجعلها مصدر القرار، وفي خضم الألم الذي
تعيشه نفسياً والقهر الذي تواجهه حسياً في قرارها، في لقمة عيشها، في
مستقبل أجيالها، تحتاج إلى خارطة طريق نحو ما تنشده، من تطلعات مشروعة
وضرورية في أغلبها.
من الضروري جداً، أن توضع الحالة التونسية على طاولة الدراسة والبحث لدى
المهتمين بعلم الاجتماع السياسي للخروج برؤى تشخص الحالة وتؤطرها نظرياً
وتجيب على السؤال المهم عن إمكانية أن تتكرر في مجتمعات أخرى، على أن
يتجاوز هذا كله مجرد التعليق السياسي أو العاطفي.
بهذا الشأن تؤكد الدكتورة سالي المهدى، أستاذ علم الاجتماع السياسي
بالجامعة البريطانية بالقاهرة، أن ما حدث في تونس سيتكرر في دول عربية أخرى
وبينها مصر لأن محدودي الدخل تمثل طبقة عريضة من الشعب بالإضافة إلى أنها
تعانى من سياسات لا تستجيب لاحتياجاتها لابد أن تجد متنفسا وتكسر الدائرة
المفرغة التي تدور فيها.
وأضافت سالي في حديثها لجريدة «المصري اليوم» في العدد 2407 الصادر في
اليوم التالي لهروب الرئيس التونسي، بأن «الشعوب العربية بحاجة إلى النظر
إليها بعين الاعتبار ولابد من تلبية احتياجاتها واستشارة رأيها لأنها لن
تظل مصابة طول الأبد بحالة الخرس السياسي». وتابعت: «قوة احتمال البشر في
مصر والدول العربية لن تستمر وستنتهي ولكن متى تنتهي؟ هذا ما لا يستطيع
السياسيون والمحللون التنبؤ به مثلما حدث مع تونس حيث انفجر الوضع فجأة».
ما حصل في تونس أثار الغبار عن كثيرٍ من المشاعر والتطلعات والأشواق التي
تكنها الشعوب العربية، والتي لم تصل إلى حيز الإعلان، وبعضها لم يصل لمجرد
التفكير، وقد كان الشعب التونسي في مثل هذا المستوى الأخير، ولعل ذلك من
أسباب ثورة التعاطف والتأييد التي خلفتها غضبته على رئيسه، وصولاً إلى
الدعوة إلى الاقتداء به، في التعجيل بالانعتاق وصناعة صبحٍ جديد في
جمهوريات ظاهرها الديمقراطية وباطنها الاستبداد.
غير أن هذا الاندفاع بحاجة إلى ضبط، وهذه مهمة النخبة في الأحزاب المعارضة
والمنظمات والنقابات، وهذا الضبط المهم، حتى تؤتي الغضبة الشعبية ثمارها
المطلوبة، وهي ثمار ذات بُعد حيوي، وجذري، وليست ثماراً شكلية.
بعد أن بدأت الأوضاع في تونس تتجه نحو الهدوء قليلاً، واستيعاب النقلة
الغاضبة، بدأت تلوح مؤشرات النتائج الحقيقية لتلك الغضبة الساخطة على
الرئيس التي انتهت بهروبه، وأصبح من الواضح جداً أن الهروب اقتصر على
الرئيس وبعض أقاربه، في حين بقي رموز نظامه كما هم، وأول تلك الرموز رئيس
حكومته، وأغلب وزرائه، وأخطر من أولائكم بقاء الحزب الحاكم الذي كان مطية
للفساد بكل أنواعه، ورافعة للاستبداد، شأنه بذلك شأن حزب البعث في العراق،
قبل أن يُرمى في مزبلة التغيير، كما رُمي زعيم الحزب، ورئيس الدولة، بصرف
النظر عن موقفنا من ملابسات ونتائج التغيير الذي حصل في العراق الشقيق، لكن
العبرة هنا حدوث تغيير مكتمل لا يشكل أي فرصة للتقهقر والعودة للوراء!
وجود الأحزاب المعارضة كبديل في عملية التغيير أمر في غاية الأهمية، لأنها
الحامل للنظام السياسي في لحظة التغيير وما بعدها، لتجنب الوقوع في فراغ
سلطوي من شأنه أن يفتح الباب لكل مدعٍ حب الشعب ونُشدان المستقبل الأفضل،
وقد يفتح الباب لصراع داخلي يدفع الشعب إلى القول: رُب يومٍ بكيت فيه فلما
صرتُ في غيره بكيتُ عليه!
ومجرد استدعاء الناس لمضمون هذا البيت الشعري هو بداية فشل التغيير، ومعه
اتساع رقعة اليأس في الوعي الجمعي لأن التغيير لامس الأشخاص ولم يلامس
القضية، وبالكاد أكسب الشعب نشوة عابرة.
إزاحة الديكتاتور يجب أن يصحبها، أو يسبقها على الأصح إزاحة الديكتاتورية
كفكرة، كثقافة، إزاحة الفاسد يجب أن تكون ضمن حركة إزاحة الفساد كقضية،
كمنظومة، لأن قضية التغيير هي المعيار الحقيقي له، ولا أريد أن أعيد ما
كتبته في مقالات سابقة عن «القضية الوطنية»، و«إصلاح مسار الثورة».
أحزاب المعارضة التي تزعم أنها معارضة حقيقية، وأنها أمل الشعب المغلوب
على أمره، مدعوة لأن تثبت ذلك، بأهليتها لأن تكون بديلاً، وهذا يتطلب
الحضور الفاعل في أوساط الشعب، وتبني فكرة البديل وتطبيقها من خلال ممارسة
العمل السياسي بما يشبه حكومة الظل، لأن بعض الأحزاب المعارضة هي عبارة عن
ديوان شعري في الرثاء والوقوف على الأطلال، أو هي قصيدة هجاء، أو بيان
تمرد، لا يتقن سوى طرح المطالب، وإملاء الشروط، أو خطاب مليء بالتنظيرات
والرؤى التي لا حامل لها من حضور أو نشاط يوصلها للآخرين، بسبب عدم – أو
ضعف- وجود الحزب على أرض الواقع!
التعددية الحزبية في معناها الحضاري، تعنى تنظيم الاختلاف، ليكون اختلاف
تنوع، اختلاف برامج، أكثر من كونه اختلاف مشاعر وأمزجة، وإلا تحولت المعركة
السياسية من معركة بناء إلى معركة هدم، ولعل أحزاب اللقاء المشترك –في
تقديري- خطوة متقدمة في تحقيق بعض المعاني الإيجابية للتعددية السياسية،
حين بدأت في مسار الأولويات المتفق عليه، بما يمليه الواقع السياسي، فتركت
المعارك الصغيرة وتوجهت إلى معركة كبيرة تهدد الجميع، وإن كانت –أحزاب
المشترك- تسير بخُطىً سلحفائية قد يداهمها سيل بشري غاضب، كما حدث في تونس،
فإما نجح الشعب في ضبط علاقته بالسلطة واضطرت المعارضة لإعادة تشكيل
نفسها، وإما أخفق الشعب في غضبته وارتد ذلك سلباً على الجميع، شعباً
ومعارضة، مما يصعّب استئناف أي تحرك للتغيير بعدها.
وفي تقديري أن تعجيل المشترك بـ«تحريك الشارع»، واستغلاله الحدث التونسي
في تفعيل ذلك، كان موفقاً ويحتاج إلى مزيد من الاستثمار الوطني.
الضرورة مُلحة في ضبط علاقة من جهتين: علاقة الشعب بالمعارضة، وعلاقة
المعارضة بالشعب، وهذا الضبط بإمكانه أن يساهم في تحديد ملامح المستقبل
المنشود، أما أن يسلم الشعب نفسه للغوغاء في أوساطه أو المتربصين به،
وتتحول المعارضة إلى «مؤذن في مالطة»، فهذه هي الكارثة، ونحن في الحقيقة
«مش ناقصين» كوارث، وليست لنا طاقة لنقول: ارحبي يا جنازة فوق الأموات،
ليتحول المشهد إلى «موت وخراب بيوت» كما يقول أهلنا في مصر.
المصدر أونلاين