سب الصحابة وحكمه...
ينقسم سب الصحابة إلى أنواع ، ولكل نوع من السب
حكم خاص به .
والسبب
: هو الكلام الذي يقصد به الانتقاص والاستخفاف ، وهو ما يفهم من السب
بعقول الناس على اختلاف اعتقاداتهم ، كاللعن والتقبيح ونحوهما . ( الصارم
المسلول 561) .
وسب
الصحابة رضوان الله عليهم دركات بعضها شر من بعض ، فمن سب بالكفر أو الفسق ،
ومن سب بأمور دنيوية كالبخل ، وضعف الرأي .
وهذا
السب أما أن يكون لجميعهم أو أكثرهم ، أو يكون لبعضهم أو لفرد منهم ، وهذا
الفرد إما أن يكون ممن تواترت النصوص بفضله أو دون ذلك .
وإليك
تفاصيل وبيان أحكام كل قسم :
من
سب الصحابة بالكفر والردة أو الفسق ، جميعهم أو بعضهم
فلا
شك في كفر من قال بذلك لأمور من أهمها :
إن
مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق ، وبذلك يقع الشك في
القرآن والأحاديث ، لأن الطعن في النقلة طعن في المنقول .
إن
في هذا تكذيبا لما نص عليه القرآن من الرضا عنهم والثناء عليهم ( فالعلم
الحاصل من نصوص القرآن والأحاديث الدالة على فضلهم قطعي ) . ( الرد على
الرافضة ص19 ) . ومن أنكر ما هو قطعي فقد كفر .
إن
في ذلك إيذاء له صلى الله عليه وسلم ، لأنهم أصحابه وخاصته ، فسب المرء
خاصته والطعن فيهم ، يؤذيه ولا شك . وأذى الرسول صلى الله عليه وسلم كفر
كما هو مقرر .
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية مبينا حكم هذا القسم : (( وأما من جاوز ذلك إلى أن
زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفرا قليلا لا
يبلغون بضعة عشر نفسا ، أو أنهم فسقوا عامتهم ، فهذا لا ريب أيضا في كفره ،
لأنه مكذب لما نص القرآن في غير موضع ، من الرضا عنهم والثناء عليهم ، بل
من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين . . - إلى أن قال - وكفر هذا مما
يعلم بالاضطرار من دين الإسلام )) . ( الصارم المسلول 586- 587 ) .
وقال
الهيثمي رحمه الله : (( ثم الكلام - أي الخلاف - إنما هو في سب بعضهم ،
أما سب جميعهم فلا شك في أنه كفر )) . ( الصواعق المحرقة 379 ) .
ومع
وضوح الأدلة الكلية السابقة ، ذكر بعض العلماء أدلة أخرى تفصيلية ، منها :
أولا
: ما مر معنا من تفسير العلماء للآية الأخيرة من سورة الفتح ، من قوله {
محمد رسول الله والذين معه } إلى قوله { ليغيظ بهم الكفار } استنبط الإمام
مالك رحمه الله من هذه الآية كفر من يبغضون الصحابة ، لان الصحابة يغيظونهم
، ومن غاظه الصحابة فهو كافر ، ووافقه الشافعي وغيره . ( الصواعق المحرقة
ص317 ، وتفسير ابن كثير 4 / 204 ) .
ثانيا
: ما سبق ذكره من حديث أنس عند الشيخين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار )) ، وفي رواية : ((
لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق )) .
ولمسلم
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : )) لا يبغض الأنصار رجل آمن
بالله واليوم الآخر )) ، فمن سبهم فقد زاد على بغضهم ، فيجب أن يكون منافقا
لا يؤمن بالله ولا اليوم الآخر . ( الصارم المسلولص581 ) .
ثالثا
: ما ثبت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، انه ضرب بالدرة
من فضله على أبي بكر ، ثم قال عمر : (( أبو بكر كان خير الناس بعد رسول
الله صلى الله عليه وسلم في كذا وكذا )) ، ثم قال عمر : (( من قال غير هذا
أقمنا عليه ما نقيم على المفتري )) . ( فضائل الصحابة للإمام أحمد 1 / 300 ،
وصححه ابن تيمية في الصارم ص585 ).
وكذلك
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : (( لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر
إلا جلدته حد المفتري )) . ( فضائل الصحابة 1 / 83 ، والسنة لابن أبي عاصم 2
/ 575 عن طريق الحكم بن جحل وسنده ضعيف لضعف أبي عبيدة بن الحكم ، انظر
فضائل الصحابة 1 / 83 ، لكن له شواهد أحدهما من طريق علقمة عن علي عند ابن
أبي عاصم في السنة 2 / 48 ، حسن الألباني إسناده ، والأخر عن سويد بن غفلة
عن علي عند الالكائي 7 / 1295 ) .
فإذا
كان الخليفتان الراشدان عمر وعلي رضي الله عنهما يجلدان حد المفتري من
يفضل عليا على أبي بكر وعمر ، أو يفضل عمرا على أبي بكر ، مع أن مجرد
التفضيل ليس فيه سب ولا عيب ، علم عقوبة السب عندهما فوق هذا بكثير . (
الصارم المسلول ص 586 ) .
من
سب بعضهم سبا يطعن في دينهم...
كأن يتهمهم بالكفر أو الفسق ، وكان ممن تواترت
النصوص بفضله . ( بعض العلماء يقيد ذلك بالخلفاء ، والبعض يقتصر على
الشيخين ، ومن العلماء من يفرق باعتبار تواتر النصوص بفضله أو عدم تواترها ،
ولعله الأقرب والله اعلم ، وكذلك بعض من يكفر ساب الخلفاء يقصر ذلك على
رميهم بالكفر ، والآخرون يعممون بكل سب فيه طعن في الدين ) :
فذلك
كفر على الصحيح ، لأن في هذا تكذيبا لأمر متواتر .
روى
أبو محمد بن أبي زيد عن سحنون ، قال : (( من قال في أبي بكر وعمر وعثمان
وعلي ، أنهم كانوا على ضلال وكفر ، قتل ، ومن شتم غيرهم من الصحابة بمثل
ذلك نكل النكال الشديد )) . ( الشفا للقاضي عياض 2/ 1109 ) .
وقال
هشام بن عمار : (( سمعت مالكا يقول : من سب أبا بكر وعمر ، قتل ، ومن سب
عائشة رضي الله عنها ، قتل ، لأن الله تعالى يقول فيها : { يعظكم الله أن
تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين } فمن رماها فقد خالف القرآن ، ومن خالف
القرآن قتل )) . ( الصواعق المحرقة ص384 ) .
أما
قول مالك رحمه الله في الرواية الأخرى : (( ومن سب أبا بكر ، جلد ، ومن سب
عائشة ، قتل . قيل له : لم ؟ . قال : من رماها فقد خالف القرآن )) .
فالظاهر
- والله اعلم - أن مقصود مالك رحمه الله هنا في سب أبي بكر رضي الله عنه
فيما هو دون الكفر ، ويوضحه بقية كلامه عن عائشة رضي الله عنها ، حيث قال :
(( من رماها فقد خالف القرآن )) فهذا سب مخصوص يكفر صاحبه - ولا يشمل كل
سب - وذلك لأنه ورد عن مالك القول بالقتل فيمن كفر من هو دون أبي بكر . (
الشفا 2 / 1109 ) .
قال
الهيثمي مشيرا إلى ما يقارب ذلك عند كلامه عن حكم سب أبي بكر : (( فيتلخص
أن سب أبي بكر كفر عند الحنفية ، وعلى أحد الوجهين عند الشافعية ، ومشهور
مذهب مالك أنه يجب به الجلد ، فليس بكفر . نعم قد يخرج عنه ما مر عنه في
الخوارج أنه كفر ، فتكون المسألة عنده على حالين : إن اقتصر على السب من
غير تكفير لم يكفره وإلا كفره )) .( الصواعق 386 ) .
وقال
أيضا : (( وأما تكفير أبي بكر ونظرائه ممن شهد لهم النبي صلى الله عليه
وسلم بالجنة ، فلم يتكلم فيها أصحاب الشافعي ، والذي أراه الكفر فيها قطعا
)) . ( الصواعق 385 ) .
وقال
الخرشي : (( من رمى عائشة بما برأها الله منه . . . أو أنكر صحبة أبي بكر ،
أو إسلام العشرة ، أو إسلام جميع الصحابة ، أو كفر الأربعة ، أو واحدا
منهم ، كفر )) . (الخرشي على مختصر خليل 8 / 74 ) .
وقال
البغدادي : (( وقالوا بتكفير كل من أكفر واحدا من العشرة الذين شهد لهم
النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة ، وقالوا بموالاة جميع أزواج رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وأكفروا من أكفرهن ، أو أكفر بعضهن )) . ( الفرق بين
الفرق ص 360 ) .
والمسألة
فيها خلاف مشهور ، ولعل الراجح ما تقدم ، وأما القائلون بعدم تكفير من هذه
حاله ، فقد اجمعوا على أنه فاسق ، لارتكابه كبيرة من كبائر الذنوب ، يستحق
عليه التعزير والتأديب ، على حسب منزلة الصحابي ، ونوعية السب .
وإليك
بيان ذلك :
قال
الهيثمي : (( أجمع القائلون بعدم تكفير من سب الصحابة على أنهم فساق )) . (
الصواعق المحرقة ص383 ) .
وقال
ابن تيمية : (( قال إبراهيم النخعي : كان يقال : شتم أبي بكر وعمر من
الكبائر ، وكذلك قال أبو إسحاق السبيعي : شتم أبي بكر وعمر من الكبائر التي
قال الله تعالى فيها : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } . وإذا كان
شتمهم بهذه المثابة ، فأقل ما فيه التعزير ، لأنه مشروع في كل معصية ليس
فيها حد أو كفارة . وهذا مما لا نعلم فيه خلافا بين أهل الفقه والعلم من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين بإحسان ، وسائر أهل السنة
والجماعة ، فإنهم مجمعون على أن الواجب الثناء عليهم والاستغفار لهم
والترحم عليهم . . . وعقوبة من أساء فيهم القول )) . ( اللالكائي 8 / 1262
-1266 ) .
وقال
القاضي عياض : ((وسب أحدهم من المعاصي الكبائر ، ومذهبنا ومذهب الجمهور
أنه يعزر ولا يقتل )) . ( مسلم بشرح النووي 16 / 93 ) .
وقال
عبد الملك بن حبيب : (( من غلا من الشيعة إلى بغض عثمان والبراء منه أدب
أدبا شديدا ، وإن زاد إلى بغض أبي بكر وعمر ، فالعقوبة عليه اشد ، ويكرر
ضربه ويطال سجنه حتى يموت )) . ( الشفا 2 / 1108 ) .
فلا
يقتصر في السب أبي بكر رضي الله عنه على الجلد الذي يقتصر عليه في غيره ،
لأن ذلك الجلد لمجرد حق الصحبة ، فإذا انضاف إلى الصحبة غيرها مما يقضي
الاخترام ، لنصرة الدين وجماعة المسلمين وما حصل على يده من الفتوح وخلافة
النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك ، كان كل واحدة من هذه الأمور تقتضي
مزيد حق موجب لزيادة العقوبة عند الاجتراء عليه . ( الصواعق المحرقة 387 ) .
وعقوبة
التعزير المشار إليها لا خيار للإمام فيها ، بل يجب عليه فعل ذلك .
قال
الإمام أحمد رحمه الله : (( لا يجوز لأحد أن يذكر شيئا من مساوئهم ، ولا
يطعن على أحد منهم بعيب ولا بنقص ، فمن فعل ذلك وجب على السلطان تأديبه
وعقوبته ، ليس له أن يعفو عنه ، بل يعاقبه ويستتيبه ، فإن تاب قبل منه ،
وإن ثبت عاد عليه بالعقوبة ، وخلده الحبس حتى يموت أو يرجع )) . ( طبقات
الحنابلة 1 /24 ، والصارم المسلول 568 ) .
فانظر
أخي المسلم إلى قول إمام أهل السنة فيمن يعيب أو يطعن بواحد منهم ، ووجوب
عقوبته وتأديبه .
ولما
كان سبهم المذكور من كبائر الذنوب عند بعض العلماء فحكم فاعله حكم أهل
الكبائر من جهة كفر مستحلها .
قال
الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ، مبينا حكم استحلال سب الصحابة : ((
ومن خص بعضهم بالسب ، فإن كان ممن تواتر النقل في فضله وكماله كالخلفاء ،
فإن اعتقد حقية سبه أو إباحته فقد كفر ، لتكذيبه ما ثبت قطعا عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ومكذبه كافر ، وإن سبه من غير اعتقاد حقية سبه أو
إباحته فقد تفسق، لأن سباب المسلم فسوق ، وقد حكم البعض فيمن سب الشيخين
بالكفر مطلقا ، والله أعلم )) . ( الرد على الرافضة ص19 ) .
وقال
القاضي أبو يعلي - تعليقا على قول الإمام أحمد رحمه الله حين سئل عن شتم
الصحابة، فقال : "ما أراه على الإسلام " ، قال أبو يعلي : (( فيحتمل أن
يحمل قوله : ما أراه على الإسلام ،إذا استحل سبهم ، فإنه يكفر بلا خلاف ،
ويحمل إسقاط القتل على من لم يستحل ذلك مع اعتقاده تحريمه ، كمن يأتي
بالمعاصي . . . )) ثم ذكر بقية الاحتمالات . ( الصارم المسلول ص 571 وما
قبلها ).
يتلخص
مما سبق فيمن سب بعضهم سبا يطعن في دينه وعدالته ، وكان ممن تواترت النصوص
بفضله ، انه يكفر - على الراجح - لتكذيبه أمرا متواترا .
أما
من لم يكفره من العلماء ، فاجمعوا على أنه من أهل الكبائر ، ويستحق التعزير
والتأديب ، ولا يجوز للإمام أن يعفو عنه ، ويزاد في العقوبة على حسب منزلة
الصحابي . ولا يكفر عندهم إلا إذا استحل السب .
أما
من زاد على الاستحلال ، كأن يتعبد الله عز وجل بالسب والشتم ، فكفر مثل هذا
مما لا خلاف فيه ، ونصوص العلماء السابقة واضحة في مثل ذلك .
وباتضاح
هذا النوع بإذن الله ، يتضح ما بعده بكل يسر وسهولة ، ولذلك أطلنا القول
فيه .
أما من سب
صحابي لم يتواتر النقل بفضله...
فقد
بينا فيما سبق رجحان تكفير من سب صحابيا تواترت النصوص بفضله من جهة دينه ،
أما من لم تتواتر النصوص بفضله ، فقول جمهور العلماء بعدم كفر من سبه ،
وذلك لعدم إنكاره معلوما من الدين بالضرورة ، إلا أن يسبه من حيث الصحبة .
قال
الإمام محمد بن عبد الوهاب : (( وإن كان ممن لم يتواتر النقل بفضله وكماله ،
فالظاهر أن سابه فاسق ، إلا أن يسبه من حيث صحبته لرسول الله صلى الله
عليه وسلم فإنه يكفر )) . ( الرد على الرافضة ص19 ) .
أما سب بعضهم سبا لا يطعن في دينهم وعدالتهم...
فلا شك أن فاعل ذلك يستحق التعزير والتأديب ،
ولكن من مطالعتي لأقوال العلماء في المراجع المذكورة ، لم أر أحدا منهم
يكفر فاعل ذلك ، ولا فرق عندهم بين كبار الصحابة وصغارهم .
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية : (( وأما إن سبهم سبا لا يقدح في عدالتهم ولا في
دينهم ، مثل وصف بعضهم بالبخل أو الجبن أو قلة العلم أو عدم الزهد ونحو ذلك
، فهو الذي يستحق التأديب والتعزير ، ولا يحكم بكفره بمجرد ذلك ، وعلى هذا
يحمل كلام من لم يكفرهم من العلماء )) . ( الصارم المسلول ص 586 ) .
وذكر
أبو يعلي من الأمثلة على ذلك اتهامهم بقلة المعرفة بالسياسة . ( الصارم
المسلول ص 571 ) .
ومما
يشبه ذلك اتهامهم بضعف الرأي ، وضعف الشخصية ، والغفلة ، وحب الدنيا ،
ونحو ذلك .
وهذا
النوع من الطعن تطفح به كتب التاريخ ، وكذلك الدراسات المعاصرة لبعض
المنسوبين لأهل السنة ، باسم الموضوعية والمنهج العلمي .
وللمستشرقين
أثر في غالب الدارسات التي من هذا النوع .