تنبيهات وأحكام لحجاج بيت الله الحرام
وتحفة البررة في فضل الأيام العشرة
منشورات مركز الإمام الألباني: ذو الحجة (1422هـ)
مركز الإمام الألباني
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه(1).
* فضل العشر الأوائل من ذي الحجة:
عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام» [يعني: أيام العشر]، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: «ولا الجهاد في سبيل الله؛ إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء».
وعن ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: «ما من أيام أعظمُ ولا أحبُّ إلى اللهِ العملُ فيهنَّ من هذه الأيام العشر؛ فأكثروا فيهن من التهليل، والتكبير، والتحميد».
* والعملُ في هذه الأيام العشرة أنواعٌ:
الأول: أداء الحج والعمرة، وهو أفضل ما يُعمل، ويدلُّ على فضله عدةُ أحاديث منها: قولـه -صلى الله عليه وسلم-: «العمرة إلى العمرة كفارةٌ لما بينهما، والحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلى الجنةُ».
الثاني: صيام ما تيسّر من هذه الأيام -دون تخصيصِ يومٍ مُعَيَّنٍ إلا يوم عرفةَ-.
ولا شكّ أن الصيام من أفضل الأعمالِ، وهو مما اصطفاه اللهُ لنفسه -كما في الحديث القدسي-: «الصوم لي وأنا أجزي به؛ ترك شهوته وطعامَه وشرابه من أجلي».
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً»، أي: مسيرة سبعين عاماً.
وعن أبي قتادة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: «صيام يوم عرفة أحتسب على اللهِ أن يُكَفِّر السَّنَةَ التي قبله والتي بعده».
الثالث: التكبير والذكر في هذه الأيام؛ لقوله -تعالى-: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}.
وقد فُسِّرت بأنها أيام العشر، واستحب العلماء -لذلك- كثرةَ الذِّكر فيها؛ لحديث ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- عند أحمد -رحمه الله-، وفيه: «... فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد».
وعن ابن عمر وأبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-: أنهما كانا يخرجان إلى السوق -في العشر-، فيكبّرون ويكبّر الناس بتكبيرهما.
وكان فقهاء التابعين -رحمة الله عليهم- يقولون في أيام العشر: «الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد».
ويستحب رفع الصوت بالتكبير في الأسواق، والدُّور، والطرق، والمساجد، وغيرها -دون تخصيصِ زمانٍ أو مكان-؛ لقوله -تَعَالَى-: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}.
ولا يجوز التَّكبيرُ الجماعي، وهو الذي يجتمع فيه جماعةٌ على التلفُّظ بصوتٍ واحد، حيث لم يُنقل ذلك عن السَّلف، وإنما السُّنَّة: أن يكبِّر كل واحدٍ بمفرده، وهذا في جميع الأذكار والأدعية؛ إلا أن يكون فَرْدٌ جاهلاً؛ فله أن يُلقَّن من غيره حتى يتعلم.
ويجوز الذِّكر بما تيسّر من أنواع التكبير والتحميد والتسبيح وسائر الأدعية المشروعة.
الرابع: التَّوبةُ والإقلاع عن المعاصي وجميع الذنوب؛ حتى يترتّب على الأعمال المغفرة والرحمة، فالمعاصي سببُ البُعدِ والطرد، والطاعاتُ بابُ القُرب والودّ؛ وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله يغار، وغيرة الله أن يأتي المرء ما حرّم الله عليه».
الخامس: كثرة الأعمال الصالحة من نوافل العبادات؛ كالصلاة، والصدقة، والقراءة، والأمر بالمعروفِ، والنهي عن المنكر، ونحو ذلك؛ فإنّها من الأعمال التي تُضاعَفُ أُجورهـا في هذه الأيام؛ فالعمل فيها -وإن كان مفضولاً- فإنه أفضلُ وأحبّ إلى الله مِـن العمل في غـيره -وإن كان فاضلاً-؛ حتى الجهاد الذي هو من أفضل الأعمال إلا مَن عُقر جواده وأُهرق دمه.
السادس: يُشرع في هـذه الأيـام التكبير المطلق في جـميع الأوقات -من ليل أو نهار إلى صلاة العيد -بدون تخصيص زمانٍ أو مكانٍ-.
ويبدأُ هذا التكبير لغير الحجاج من فجر يوم عرفة، وللحجاج من ظهر يوم النحر، ويستمر إلى صلاة العصر آخر أيام التشريق.
السابع: تُشرع الأضحية في يوم النحر وأيام التشريق، وهو سنّة أبينا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- حين فدى اللهُ ولدَه بذبح عظيم، وقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ضحَّى بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده، وسمَّى، وكبّر، ووضع رِجله على صفاحهما.
الثامن: عن أم سلمة -رضي الله عنها-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحّي؛ فليُمسك عن شعره وأظفاره».
وفي رواية: «فلا يأخُذْ من شعره ولا من أظفاره حتى يضحّي»؛ ولعلّ ذلك تشبّهٌ بمن يسوق الهدي؛ فقد قال -تعالى-: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}، وهذا النهي ظاهره يشملُ صاحب الأضحية، والزوجة، والأولاد؛ لِعُموم قولهِ -صلى الله عليه وسلم-: «على كُلّ أَهْلِ بيتٍ في كُلِّ عام أضحية».
ولا بأس بغسل الرأس ودلكه -ولو سقط منه شيء من الشعر-.
التاسع: على المسلم الحـرصُ على أداء صلاة العيد حيث تُصلّى -والسنّة أن تكون في المُصلّى-، وحضور الخطبة والاستفادة، وعليه معرفة الحكمة من شرعية هذا العيد، وأنه يوم شكر وعمل برّ، فلا يجعله يوم أَشَر وبَطْر ولهو ولعب، ولا يجعله موسمَ معصيةٍ وتوسُّع في المحرمات؛ كالأغاني، والملاهي، والمسكرات، ونحوها مما قد يكون سبباً لحبوط الأعمال الصالحة التي عَمِلَها في أيام العشر.
العاشر: ينبغي على كل مسلم ومسلمة: استغلالُ هذه الأيام في طاعة الله وذكره وشكره، والقيام بالواجبات، والابتعاد عن المنهيات، واهتبال هذه المواسم، والتعرُّض لنفحات الله؛ ليحوز على رضا مولاه.
* كلمات للحُجّاج -بين يَدَي حجّهم-:
أخي المسلم! ها أنتَ قدْ عزمتَ على شدِّ الرحالِ إلى بيت اللهِ الحرام؛ مُلَبِّياً نداءَ أبيكَ إبراهيم الخليل -عليه السلام-، آخذاً نسُككَ عن نبيك مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-؛ لتؤدي فريضتكَ، وتقيم شعيرتك، وتُعظِّمَ بيتَ اللهِ، وتُظَهِرَ الذلَّ والعبوديَّة للهِ؛ تحقيقاً لقول الله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}، وقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أيها الناس، إن الله فرض عليكم الحجَّ؛ فحجُّوا».
فعليك -أخي الحاج- أن تُجّرِّدَ الهمَّة لهذه المهمة التي كتبها الله عليكَ، وجَعَلَها إحدى مباني الإسلام؛ لترجعَ بحجٍّ مبرورٍ، وتُجزى بالجنَّة، فتغسل حوبتَك، وتُعلن توبتَك، وتَرجِعَ من ذنوبكَ كيوم ولدتك أمك؛ صافياً نقياً كالثوبِ الأبيضِ المنقّى من الدَّنس.
وإليك -أخي الحاجُّ- بعضَ هذه الواجبات المهمات؛ لتكون على بينةٍ من دينكَ، فتفعلَ ما يَزينك، وتُجانِبَ ما يَشينك:
أولاً: الإخلاصُ للهِ، والبعدُ عن الرياءِ والتَّسميع:
وذلك أنَّ اللهَ لا يقبلُ من العمل إلا ما كانَ خالصاً له -سبحانه-، وابتُغي به وجهه؛ لقول اللهِ -تَعَالَى-: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}، وقوله -تعالى- في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاءِ عن الشرك، مَنْ عَمِلَ عملاً أشرك فيه معي غيري تركتُه وشركه»؛ فمن حجَّ يبتغي الذِّكر والصِّيت انقلب عليه عمله، ولم يُرفع فوق رأسه.
ثانياً: المتابعة لرسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- ظاهراً وباطناً:
فالإخلاص للهِ -دونَ متابعةٍ لرسولِ اللهِ- لا يكفي ولا يُجزئ، فأبى اللهُ أن يَقْبَلَ عملاً إلا إذا أخلص فيه صاحبُه للهِ، وجرَّد المتابعةَ لرسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-القائل-: «فمن رغب عن سنّتي فليس مني».
وحتى تقتدي الأمة به -صلى الله عليه وسلم- في حجِّها -ليكونَ صحيحاً مقبولاً مبروراً- قال -صلى الله عليه وسلم-: «لتأخذوا عني مناسككم».
وقد حفظ أصحابُه صفةَ حجِّهِ -صلى الله عليه وسلم- منذ خروجه من المدينة وحتى عودته إليها، من غير زيادةٍ ولا نقصان.
وحديثُ جابر بن عبدالله -الصحابي الجليل- أكبرُ شاهدٍ على ذلك.
ثالثاً: اجتناب الشرك بأنواعه وأشكاله:
وذلك أن الشركَ أعظمُ ذنبٍ عُصِي اللهُ به، وهو مُحبِطٌ للعملِ، مخلّدٌ في النار، لا يقبل اللهُ من صاحبه صرفاً ولا عدلاً؛ كما قال -تعالى-: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، وقال: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
رابعاً: التَّوبةُ وردُّ المظالم:
على الحاج أن يتوبَ من ذنوبه توبةً نصوحاً؛ لأنَّ الإصرارَ على الذَّنب نذيرُ شرٍّ واستخفافٍ بالله، وهذا -عياذاً بالله- يؤدي إلى سوء الخاتمة، وشرّ العاقبة في الدنيا والآخرة؛ فما من مصيبة إلا بذنبٍ، وما من نعمة إلى بتوبةٍ واستغفار وطاعةٍ، والفلاح معلق بالتـوبة؛ كما قال -تعالى-: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
والعذابُ معلَّقٌ بالمعاصي والذُّنوبِ، فهلاكُ الأمم والشُّعوب من حصادِ مُخالفةِ الأَوَامِر، وارتكابِ النَّوَاهي.
ويجب عليك -أخي الحاجُّ- قبل سفرِك- أن تَرُدَّ المظالمَ إلى أهلِها، وتُؤدّي الديون إلى أصحابها، وتُرجع الأمانات إلى أربابها.
خامساً: اختيار المال الحلال والنفقةِ الطيبة:
لأنَّ اللهَ طيبٌ لا يقبل إلا طيباً؛ فمن حجَّ بمالٍ رَبَوي، أو بمالٍ من كسب حرامٍ، لم يرجع بحجٍّ مبرورٍ -وإنْ كان حجُّه صحيحاً عند الجمهور- ولكنَّه إلى الفِعْلِ المأزور أقرب منه إلى المأجور، وصدق الشاعر إذ يقول:
إذا حججتَ بمالٍ كله سحـتٌ فما حَججت ولكــن حجَّت العيرُ
ولا يقبل اللهُ إلا كل صالـحةٍ مـا كـلُّ مَـن حجَّ بيت اللهِ مبرورُ
يتبع.....